الرئيسية

تحقيق| زراعة العطش.. هكذا استثمر “كارتيل الدلاح” بإقليم طاطا في عطش الساكنة وقتل الواحة

كيف تم تجفيف مياه منطقة طاطا، وكيف دُمّرت الواحات التي كانت تشكل حزامًا أخضر يخاصر الإقليم؟ بأي طريقة نٌهبت أراضي الجموع ومراعي القبائل، وتحولت إلى مزارع لـ"الدلاح"، ومن المستفيد من الافتراس الاقتصادي والفساد المالي، ولماذا رفض عامل الإقليم منع هذه الزراعة، وما علاقة رئيس الغرفة الفلاحية لسوس ماسة بكل هذا للإجابة عن كل هذه الأسئلة، قامت "هوامش" في هذا التحقيق بالتقصي خلف خطوط "كارتيل الدلاح" المتشابكة في إقليم طاطا؛ نبشت في بذور الفساد وفككت خيوط تداخل المال والسياسة؛ للكشف عن مأساة تجثم على ساكنة أرض النخيل والحناء… مأساة عنوانها "زراعة العطش".

“هوامش”- طاطا/ تحقيق: سعيد المرابط 

تجلس أم الخير القرفصاء بجانب صهريج الماء البلاستيكي الأبيض، تحت أشعةِ شمس الظهيرة التي لا تطاق بدوار “توگريح” في هذا الوقت من السنة، رغم أن الفصل شتاءٌ. تتحمل أم الخير الحر، وهي تنتظر مرغمةً امتلاء السطل، كي تنهي أشغال المطبخ وغسل الأواني.

لم تكن تتخيل هذه المرأة الأربعينية أنها ستضطر لجلب الماء كما كانت تفعل النساء في سبعينيات القرن الماضي؛ فمنذ أن كانت طفلة، وعلى مدى 25 عاما، كان الماء متوفرا داخل البيت؛ حيث أن بيوت القرية موصولة بشبكة لتوزيع الماء، منذ سنة 1997، بفضل مشروع أنجزته جماعة “أم الكردان” وتكفلت بالربط مقابل تسعيرة تناهز ثلاثة دراهم للطن الواحد.

“كنا نعاني من قلة الماء في السابق، ولكن كنا نشرب مما هو متوفر ونقضي به حوائجنا، أما اليوم فقد جفت المنابع والآبار، الماء غادر في جوف الدلاح، ولم يبق هنا إلا السراب”، تقول أم الخير لـ”هوامش”، قبل أن تدلف إلى بيتها، وهي تحمل سطل الماء، الذي أصبح بمعية الصهاريج البلاستيكية البيضاء؛ علامة مميزة للدواوير المحيطة بمدينة طاطا.

“بِعطشنا نُنمّي ثروات المزارعين” 

المنطقة عبارة عن فضاء صحراوي لا متناه، تحيط به جبال “باني”، المنفتحة على الصحراء الكبرى، بالقرب من الحدود مع الجزائر، وتطوقها سلسلة جبال الأطلس الصغير، وتخاصرها واحات تشكل حزاما أخضر من النخيل، قبل أن يتحول الأخضر الطري إلى الأصفر الجاف. فمشهد النخيل وهو يموت واقفًا بسبب العطش، متناثرًا بعد سقوطه، أو كليلًا يزحف عليه التصحر؛ هو المشهد الثابت والمتكرر في المنطقة، والشاهد الصامت على “المصيبة”.

تجولت “هوامش” خلال الإعداد لهذا التحقيق، في دواوير “أم الگردان” و”تورسولت و”تازارت” و”توگ الريح”؛ المشهورة بخصوبة أراضيها وعذوبة مياهها، ولكن مصيرها لم يختلف عن مثيلاتها في مناطق الجنوب الشرقي، إذ باتت تعاني المنطقة من ندرة في المياه تصل أحيانًا حدّ الانعدام.

توقفنا في دوار “توگ الريح”، المنتمي لجماعة “أديس” -التي يقطنها قرابة 6000 نسمة ضمن حوالي ألف أسرة وفق إحصاءات رسمية لسنة 2014- التابعة لإقليم طاطا، بجهة سوس ماسة، وتقع في منطقة الأطلس الصغير عند واحة واد طاطا، التي تمتد من الأطلس الكبير إلى واد درعة، ويحدها من الشمال الغربي إقليما تارودانت وتيزنيت، ومن الجنوب الغربي إقليم آسا الزاك.

في جولتنا لاحظنا توفر بيوت هذه الدواوير على عدادات، ظننا بداية أن الأمر يتعلق بمشروع في طور الإنجاز لإيصال الماء الشروب إلى المنازل، لكننا اكتشفنا أن المساكن تم ربطها بالماء الصالح للشرب سنة 1997، في إطار مشروعٌ أنجزته الجماعة الترابية “توگ الريح”، حين كانت الآبار المحيطة بالمنطقة مصدر الماء الذي تشربه الساكنة. 

والآن توقفت العدادات وعادت حياةُ السكان القهقرى، إلى بدائية ما قبل العدادات؛ وما عاد شيء يشغل بالهم أكثر من البحث عن الماء.

بدأت زراعة فاكهة “الدلاح”، أو “الكارثة” كما تصفها الساكنة هنا، سنة 2018، مع قدوم عدد كبير من المزارعين من تارودانت وهوارة وأكادير، للاستقرار والاستثمار بالمنطقة.

وتتجه أصابع الاتهام اليوم إلى هؤلاء، إذ تعتبر الساكنة أن هذه الفاكهة، التي يشكل الماء 90 بالمائة من وزنها، هي السبب في “تجفيف حوالي 240 بئرًا، بعد خمس سنوات من الاستنزاف”.

يسترجع ابن طاطا أحمد المخشوني، في حديثه لـ”هوامش”، ذكريات طفولته بدوار “تورسولت”، عندما كان يسبح وأقرانه في صهريج ماء كبير، يمتلئ من عين “تيرسفت”، التي كانت تسقي واحات هذا الدوار، ” جفت العين وملأتها النفايات… لقد تكالب عليها الجفاف والآبار التي حفرها مزارعو الدلاح، والتي سَحبت المياه ولم تعد تصل إليها” يقول أحمد.

 والنتيجة “نخيل ميت لم يعد يصلح لا للزينة ولا للثمار”،  يضيف المخشوني بحسرة وهو يتجول بنا بين أطلال الواحة والعين الجافة؛ دون أن يخفي خطرا آخر أصبح يهدد الساكنة وهو إمكانية “نشوب حريق بفعل الحرارة أو غيرها”.

شارك المخشوني في الاحتجاجات مع سكان الدوار، الذين أخرجهم العطش ضد تواجد زراعة البطيخ الأحمر في الإقليم، ويشرح لـ”هوامش”، أن سنوات الجفاف ساهمت في تدهور الوضع، فـ”منذ سنوات لم ينزل المطر في هذه المنطقة، تحديدًا من سنة 2014″. 

ولكنه يؤكد أن “الزراعة الكارثية للدلاح استنزفت الفرشة المائية على صعيد الإقليم كله، لأنه كان المستنزف الوحيد للثروة المائية، إلى درجة أن الساكنة لم تجد ماء الشرب في الصيف”. 

ويشير إلى أن الجماعة والعمالة “اضطروا إلى وضع صهاريج الماء” بالدواوير لتزويد الساكنة بالماء، و”هذا عبث، فقد كان حريا بالسلطات منع هذه الزراعة منذ البداية، وليس ابتكار حلول ترقيعية”، يعلق محدثنا.

من جهته، يقول الناشط الحقوقي أحمد حام، “خرجنا رفقة الضمائر الحية، لإنقاذ ما تبقى وإيقاف زراعة الدلاح، فطاطا اليوم تعاني من جرائم مافيا الدلاح، التي استنزفت الماء، وكادت تتسبب في تهجير قسري للساكنة”.

“لم يسبق أن تخيل أهل طاطا أنه سيأتي يومٌ يوزع عليهم الماء في صهاريج، كأنهم لاجئون من منطقة حرب، وهم ليسوا سوى ضحايا لمافيا الدلاح”، يضيف حام.

ويفسر الناشط، بعين ابن الإقليم والخبير في تفاصيله، إشكالية الماء، “اليوم انتقلنا من تدبير الندرة المائية، فطاطا لم تكن يومًا تمتلك وفرة مائية، هذه الوفرة كانت فقط في مخيلة البعض، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من كارثة”.

ويضيف المتحدث “اليوم للأسف وصلنا إلى كارثة بسبب الجشع والطمع، المسيطران على الذين يريدون الاغتناء والربح السريع، على حساب الحق المشترك في الماء”.

وفي تقرير لها  نشرته بتاريخ 9 شتنبر 2021، رصدت “جمعية محاربة الانجراف والجفاف والتصحر بالمغرب” (Alcesdam Maroc) أن زراعة البطيخ الأحمر “توسعت بشكل مدهش في إقليم طاطا في السنوات الأخيرة خاصة  سنة 2021”.‬‬

المنظمة التي حذرت من “‬خطورة السماح بزراعة البطيخ الأحمر بمناطق إقليم طاطا”؛ أشارت إلى أن “تسويق معظم الإنتاج يتم خارج المنطقة بنسبة تقدر ب 70 بالمئة”، وهو ما يؤكده قول أحد شباب طاطا في تصريح لـ”هوامش”؛ “إننا ندفع ثمن تواطؤ المسؤولين، وننمي ثروة المزارعين بعطشنا”.‬‬‬

ويؤكد ذات التقرير أن صافي الدخل بالنسبة للمزارعين “يبلغ ما بين 60 ألف و75 ألف درهم للهكتار الواحد”.‬ مشددًا على أن البطيخ الأحمر على مدى 4 أشهر “يستنزف موارد مائية هائلة، فإنتاجه يتطلب حوالي 750 لترا من الماء للكيلوغرام الواحد”.‬‬

عامل طاطا: “إيقاف الدلاح سباحة في الوهم”

غادر الماء طاطا محملًا في الشاحنات التي نقلته في جوف “الدلاح” إلى كل مناطق المغرب. جفت العيون والآبار، وتوقفت الصنابير عن ضخ الماء، فاستبد العطش بالساكنة، التي خرجت عن بكرة أبيها في ربوع الإقليم المنكوب، تطالب بتوقيف زراعة البطيخ الأحمر، الذي سيتسبب لها في “تهجير قسري”، إذ لا يمكنها العيش بدون ماء.

وفي مقابل الأصوات التي ارتفعت، التزمت السلطات الصمت، رغم أن عامل إقليم طاطا، أصدر بتاريخ 22/03/2021 قرارا عامليا تحت رقم 38، يعلن بموجبه “إقليم طاطا منطقة متضررة من الجفاف”.

لم يفهم أحد تناقض قرارات صلاح الدين أمال، عامل الإقليم، الحاصل على إجازة في الاقتصاد وخريج المعهد الملكي للإدارة الترابية. فبعد سنة ونيف على إصداره قرارا يعلن الإقليم متضررًا من الجفاف، رفض “إيقاف زراعة الدلاح”، رفضًا قاطعًا. هذا ما عبر عنه نهاية شهر أكتوبر الماضي، في لقاءٍ دراسي تشاوري حول “إشكالية الماء والاستثمار بالواحات”، نظمه “منتدى إفوس للديمقراطية وحقوق الإنسان” و”مرصد الشباب لتقييم للسياسات العمومية”.

تحدث العامل أمال، في اللقاء، وأعلن بلهجة دارجة وبلغة واضحة لا تقبل التأويل أن زراعة “الدلاح” بالإقليم لن تتوقف، واصفًا الذين يطالبون باستصدار قرار يمنع زراعة البطيخ، بأنهم “يسبحون في الوهم”. وقال “يجب أن نُعمل المنطق (..) السنة الفارطة قمنا بعمل جبار (..) وطمرنا آبارا واستهدفنا في هذا الأمر مزارعي الدلاح”.

الآبار التي طمرت حسب توضيح عامل في الإقليم هي الآبار غير المرخصة، وهو إجراء إداري روتيني وليس خاصا بالوضع الاستثنائي الذي يعرفه الإقليم. ويوضح العامل في نفس اللقاء أن السلطات تطلب “الترخيص بحفر البئر، وإن توفر نطلب رخصة الجلب، ثم العداد، وإن توفر كل ما سلف، نتحقق من ملكية الأرض، فإن كانت تدخل ضمن أراضي الجماعات السلالية فلا حق له ونعمل على توقيف نشاطه”.

وأوضح المسؤول الأول في الإقليم، أن هذه هي الإجراءات التي يمكن للسلطات أن تقوم بها، وأضاف أنه في هذه السنة “سنفرض أن اليد العاملة التي تشتغل عند مزارعي الدلاح يجب أن تكون متوفرة على الضمان الاجتماعي”، مشددا على أن إصدار قرار منع زراعة الدلاح بوسع أي كان أن يطعن فيه.

التناقض الملغز بين قرار وموقف عامل الإقليم، يفسره مقاول شاب من أبناء المنطقة، في تصريح لـ”هوامش”، تحفظ على ذكر اسمه، أن “رئيس الغرفة الفلاحية هو من أقنع عامل الإقليم بأن زراعة الدلاح في طاطا رافد اقتصادي مهم، ومخرجٌ آمن من أزمة البطالة، بحيث يوفر عشرات مناصب الشغل واليد العاملة”. 

هذا المعطى الذي قدمه الشاب، الذي قابلناه في مقهى خارج المدينة، تؤكده مراسلة رئيس الغرفة الفلاحية بسوس ماسة لعامل الإقليم يطالبه فيها بـ”وقف ردم الآبار مراعاة للمصلحة الفلاحية”.

ودافع رئيس الغرفة الفلاحية في مراسلته عن مزارعي الدلاح قائلًا بأنهم عمدوا تماشيًا مع استراتيجية المغرب الأخضر إلى “عصرنة ضيعاتهم الفلاحية وتجهيزها بمعدات السقي بالتنقيط إضافة إلى مختلف المعدات والمدخلات من أسمدة وبذور وشتائل، والتي تساهم في الرفع من الإنتاجية وتحسينها كمًا ونوعًا”.

وتضيف المراسلة أن “المجهودات وتضحيات فلاحي المنطقة ساهمت بشكلٍ كبير في تحسين وضعية الساكنة المحلية من خلال الرواج الاقتصادي وتوفير فرص الشغل”.

هذه المراسلة، حسب المقاول الشاب، في الحقيقة “تدافع عن مصالح رئيس الغرفة الفلاحية بشكل مباشر، فهو من بين المستفيدين من زراعة الدلاح في طاطا، حيث أنه يمتلك شركة فلاحية تبيع جميع المعدات اللازمة لزراعته، من البذور حتى البلاستيك”.

“السيد الرئيس كان يدافع عن مجال تجارته، الذي يدر عليه ملايين الدراهم، ولم يكن يدافع لا عن الفلاحين ولا عن فرص شغل الساكنة… الرجل أصيب في جيبه”، يعلق المقاول لـ”هوامش”.

“كارتيل الدلاح”.. سر التسمية يكمن في “بذور الفساد” 

الصحافي رشيد البلغيتي، كان من الأوائل الذين واجهوا ما أسماه “كارتيل الدلاح”، وأول من فضح “الجريمة” إعلاميًا، فهو ابن المنطقة ويعرف خباياها جيدًا، ويؤكد أنها كبدت الإقليم “خسائر كبيرة جدا، بعضها غير قابل للتدارك مع الأسف!”.

في حديثه لـ”هوامش”، يرى البلغيتي، أن الدلاح زراعة مؤذية في بلد مثل المغرب، وليس في إقليم طاطا فقط”. ويوضح ذلك بالقول إن “الوضعية المائية محرجة جدا، فنحن نسجل 5.4 نقطة في مؤشر الموارد مقابل 9.1 كمعدل عالمي، وهذا معناه أننا بلد فقير مائيا وعليه أن يمنع بالقانون عددا من الزراعات التي ستزيد من فقره”.

“في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية تحول الدلاح من توصيف، الزراعة المؤذية، أو الزراعة الجائرة، إلى الزراعة الجريمة”، يضيف البلغيثي، وهو أول من أطلق على “مزارعي الدلاح” في إقليم طاطا وصف “كارتيل الدلاح”. 

في تفسيره للتسمية، يقول محدثنا “الكارتيل تعبير خرج من قاموس الاقتصاد ودخل إلى قاموس الجريمة، بعدما أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الوصف على الميثاق غير المعلن الذي يجمع كبار تجار المخدرات، وجزءا من الإدارة، وشركات تجارية قانونية”.

ويضيف في حديثه لـ”هوامش”، أن هذا الوصف “ينطبق على ما يحدث في طاطا؛ فالدلاح نثر بذور الفساد في الأرض، والفلاحون الكبار التقت مصالحهم بمصالح لصوص أراضي الجموع الذين شجعتهم هذه الزراعة على نهب آلاف الهكتارات، فحصلوا على شواهدها الإدارية والعدلية وأجهضت لصالحهم كل المساطر القضائية التي حاول أصحابها فضح هذا التزوير البين”.

ويواصل البلغيتي “أضف إلى كل هذا، الغطاء السياسي التي استفادت منه هذه العملية عبر عدد من المجالس المنتخبة، وعلى رأسها الغرفة الجهوية للفلاحة بسوس ماسة، والتي يعمل رئيسها بكل ما أوتي من قوة على استدامة زراعة الدلاح في الإقليم، بينما يقوم نائبه السابع بالترويج للدلاح كمنقذ لاقتصاد المنطقة ومورد لتشغيل اليد العاملة فيها”. 

“رئيس الغرفة صاحب شركة لتجهيز الضيعات، وهو يزود فلاحي الدلاح بالآليات كل سنة، بينما اكتشفنا أن نائبه السابع يمتلك 644 هكتارا في جماعة أم الكردان، ومعه آخرون يبيعها (بالتقسيط) لكل راغب في زراعة الدلاح، بأثمنة تبعث على الدهشة، أما السؤال: فهو من أين للرجل بكل هذه الهكتارات؟” يتساءل المتحدث باستغراب واستنكار في الآن نفسه.

ويشير البلغيتي إلى “جريمة بيئية” أخرى، وكوارث طبيعية وإنسانية خلفتها زراعة “الدلاح” بالإقليم، “مئات الأطنان من البلاستيك الأسود المسرطن التي حملتها الريح إلى الصحراء فالتفت على أشجار الطلح والنخل وسقطت في الآبار المفتوحة، وكذلك مئات الأطنان من المبيدات السامة التي تشربتها الأرض، في سبيل حمرة أكثر ووزن أكبر وحلاوة أجدر بالتصدير إلى أوروبا والخليج وروسيا، ناهيك عن حوادث سير وقعت وقتلت مياومين شباب، بسبب سيارات مهترئة جاء بها مزارعو الدلاح إلى هذه البلدة الآمنة”.

ويخلص البلغيتي في حديثه إلى أن زراعة “الدلاح” في طاطا، أفرزت وعززت في الإقليم “مناخًا للفساد والرشوة؛ استفاد منه موظفون لغض الطرف عمن يحفر الآبار خارج القانون ويزرع أرضا بلا سند ولا قانون”.

المال والسياسة: وجهان لـ”تجارة العطش” 

بالموازاة مع كلام عامل الإقليم، ومع احتجاجات “العطش” التي تشهدها المنطقة، قامت مجموعة مكونة من منتخبين ورجال أعمال بدعوة فلاحي الإقليم إلى “نقاش حول الدعم الفلاحي والأعلاف” قبل أن يكتشف المدعوون أن الهدف الحقيقي والخفي من الاجتماع هو “تكوين جبهة مقاومة ضد مطالب السكان بإيقاف زراعة الدلاح”، وفق ما أكده فلاح من طاطا لـ”هوامش”.

تتألف المجموعة السالفة الذكر، التي  يصفها السكان بـ”المدافعين عن كارتيل الدلاح” ، من كل من النائب السابع لرئيس الغرفة الفلاحية سوس ماسة، اليزيد بن يحيى، وعضو بالغرفة عن إقليم طاطا، ونائب الجماعة السلالية “توگ الريح”، الباشير الحاج، بمعية عبد الرحيم نفيسو، وهو رجل أعمال وسياسي شاب، خاض غمار الاستحقاقات البرلمانية السابقة تحت يافطة حزب “الأصالة والمعاصرة”، بالإضافة إلى رئيس الغرفة الفلاحية لجهة سوس ماسة درعة، يوسف جبهة، المنتمي إلى حزب “التجمع الوطني للأحرار”، الذي يقود الحكومة.

قامت هذه المجموعة التي يصفها السكان بالمدافعين عن “كارتيل الدلاح”، بدعوة فلاحي الإقليم إلى “نقاش حول الدعم الفلاحي والأعلاف”، وفق ما أكده فلاح من طاطا لـ”هوامش”، ولكنهم اكتشفوا أن “الاجتماع كان لتكوين جبهة مقاومة ضد مطالب السكان بايقاف زراعة الدلاح”، حسب تصريح أدلى به لـ”هوامش” فلاح كان من بين الحاضرين.

خلال ذلك الاجتماع؛ أُعلن عن تأسيس جمعية “فلاحي وفلاحات عاملي وعاملات الضيعات الفلاحية بإقليم طاطا”، “منعونا حتى من الحديث، لم يعطوا الكلمة لأحد، فقد جاؤوا بمكتب جاهز للجمعية وأعلنوا عن تأسيسها”، يقول عبد اللطيف الذي كان حاضرًا يومها، وكان من بين الذين رفضوا “هذه المهزلة” حسب تعبيره.

في ذات اليوم، دشنت الجمعية عملها، ببيان يندد بقرار توقيف زراعة “الدلاح”، معتبرة “أن النقاش الدائر في الآونة الأخيرة حول- منع زراعة الدلاح – (..) مرده إلى استقطابات وحسابات سياسوية ضيقة يعلم الجميع كواليسها”.

وأضاف بيان ما بات يعرف بـ”كارتيل الدلاح“، أن “الغرض منها ليس ما يروج له من شعارات براقة، تدغدغ مشاعر الطاطاويين وتحرضهم دون أي سند علمي أو دراسات تقنية في هذا الصدد”. واستنكر البيان، ما وصفه بـ”إقصائهم من حضور اجتماع اللجنة الإقليمية للتشاور حول الماء، وتغييب الرأي الآخر ولشريحة مهمة وشريك أساسي للسلطات المحلية والإقليمية، تساهم دائمًا وأبدًا في الدفع بعجلة التنمية”.

ووصف البيان قرارات المنع، “إن اتخذت”، بأنها “غير متوازنة وغير منصفة ستعصف بالاستقرار الاجتماعي للعديد من الأسر والعائلات التي تعيش من هذه الأعمال”. وهدد موقعو البيان بـ”عزمهم التقاضي مع أية جهة كانت، تمنعهم من القيام بأعمالهم الزراعية المحددة قانونًا، والتي قد تعود عليهم بخسائر مادية ومعنوية”.

لم يفهم أحد في الإقليم هذا الدفاع عن “كارتيل الدلاح”، ولا الاستماتة في بقاء نشاطه الفلاحي رغم تحذيرات الخبراء، واحتجاجات الساكنة والعجز المائي الواضح. 

في بحثنا عن من يقف وراء زراعة الدلاح، والأحداث المتسارعة التي تلت احتجاجات الساكنة ودفعت عامل الإقليم للحديث علنا عن الموضوع، ترددت عدة أسماء، أهمها الباشير الحاج واليزيد بن يحيى، هذان الشخصان هما اللذان ورد اسماهما في تصريح المقاول الشاب في حديثه عن “المحيط الفاسد لعامل الإقليم”.

نفس الاسمين سيردان في شهادة عبد الله بونعيلات، أحد أعيان قبيلة دوبلال، الذي يتهم الباشير الحاج وشريكه اليزيد بن يحيى بالتورط في “قضايا السطو على الأراضي بإقليم طاطا، بطرق مشبوهة”، إضافة إلى يوسف جبهة، رئيس الغرفة الفلاحية لسوس ماسة، الذي يمتلك “شركة تبيع الأسمدة المعدات الفلاحية اللازمة” لزراعة “الدلاح”، وهي شركة “UNIVERS PHYTO” المسجلة في إقليم تارودانت.

لاستيضاح ما يحيط به وشركته، اتصلت “هوامش” مرارًا بيوسف جبهة، رئيس الغرفة الفلاحية سوس ماسة درعة، ومالك الشركة المذكورة، دون جدوى، ثم أرسلنا رسالةً إلى رقمه الخاص عبر تطبيق التراسل الفوري “واتساب”، واجهناه فيها بكل المعطيات التي حصلنا عليها والأسئلة حول دفاعه عن زراعة “الدلاح” بطاطا، وكذلك حول الاتهامات الموجهة إليه بخصوص استثمار شركته في بيع معدات هذه الزراعة، وطلبنا منه ردًا على ذلك، ولكننا لم نتوصل بأي رد، حتى هذه الساعة.

وبالإضافة إلى امتلاك الباشير واليزيد “لضيعة مساحتها خمسة هكتارات لزراعة الدلاح بدوار أم الگردان”، وبيعهما لـ”33 هكتارا” من الأراضي السلالية، لرجل الأعمال عبد الرحيم نفيسو، بمبلغ “قدره 20 ألف درهم” (مليوني سنتيم)، وفق عقد البيع الذي حصلت “هوامش” على نسخة منه، وهي أراض وفق المصادر “تقع في دوار تورسولت، تمت سرقتها بطرق مشبوهة، وسجلت في أكادير جميع إجراءات توثيقها بعيدًا عن طاطا”.

“في طاطا يستحيل أن تصادق أية إدارة على عقد بيع بهذا الثمن”، يؤكد لـ”هوامش” أحد النشطاء الذين يناهضون “كارتيل الدلاح”.

ولكن المبلغ الذي وثق في العقد وفق المعلومات التي استقتها “هوامش”، من مصادر متعددة ومتطابقة، بينها منسق حزب سياسي بطاطا تحفظ على كشف هويته، “ليس هو ثمن الأرض، فثمنها الحقيقي أخذه الباشير واليزيد مسبقًا في فترة الحملة الانتخابية الأخيرة، من أجل شراء أصوات المواطنين وضمان كرسي بالبرلمان عن طاطا لنفيسو، ولكن ذلك لم يتم فاضطر الاثنان إلى البحث عن مخرج لورطتهما معه، والتي كان حلها هو تلك الأرض”.

“نفيسو الذي دعم من ماله الخاص حملة البشير واليزيد الانتخابية، حاول هو نفسه الترشح لعضوية الغرفة الفلاحية عن طاطا، فرفض ملفه بسبب عدم توفره على نشاط فلاحي، خيث أن مجال عمله هو التعدين، ومن أجل ذلك أعطاه رئيس الغرفة الحالي وثيقة تفيد أنه يعمل في الفلاحة رغم أنه لا علاقة له بها، فقبل ملفه، لكنه لم يفز بالمقعد”، يشرح عضو بالغرفة الفلاحية تحفظ على ذكر اسمه.

مافيا الأراضي: حفظ القضايا وتعطيل العدالة 

مع كل خطوة نخطوها في هذا التحقيق تزداد الأسئلة تشعبا، لهذا انتقلنا إلى دوار “توگ الريح”، للقاء عبد اللهِ بونعيلات، والذي تقدم بشكايات ضد الباشير الحاج وشريكه اليزيد بن يحيى، يتهمهما فيها بـ “سرقة أراضي الجموع وأراضي الدولة ومراعي القبيلة”.

يجلس الرجل في بهو منزله، ويتحدث إلينا بمرارة “ابتلينا في السنوات الأخيرة بعصابة، بمافيا للعقار، تقدم نفسها على أنها مسؤولة عن أراضي الجموع، وهي على العكس، ضيعت هذه الأراضي وضيعت معها مراعي القبيلة، في كل من طاطا الجنوبية بجماعة أديس، وجماعة أم الگردان، حيث يقوم نائب أراضي الجموع بإعطاء البعض شهادة [لا تنتمي]، وهي شهادة تؤكد عدم انتماء العقار لأراضي الجموع، ليقوموا بعد ذلك بمشاركتهم في الأراضي، التي تبلغ مساحتها هكتارات عديدة”.

هذا المعطى، موثقٌ في “رسم إشهاد”، وقعه عدلان من ابتدائية أكادير؛ و”عقد قسمة اتفاقية”، أبرمه محام بهيئة أكادير، لأرض فلاحية مساحتها 110 هكتارات، حدد ثمنها في “عشرة آلاف درهم”، ويوجد إسم البشير الحاج وشريكه اليزيد بن يحيى في هذه القسمة، حيث قاما وفق وثيقة تعرّض (اعتراض) حصلت عليها “هوامش”، بتأجيرها لمزارع قادم من “شتوكة أيت باها”، وهي إحدى المناطق التابعة لأكادير والتي جاء منها الكثير من مزارعي “الدلاح” إلى طاطا.

الطريقة التي تتم بها عملية “السطو على الأراضي”، وفق بونعيلات، مثيرةٌ جدًا حيث “يجلبون مجموعة من شهود الزور من مدينة أكادير، بمعية عدلين، ويقومون بإعداد الإشهادات، (عقود موثقة من العدول تثبت ملكية أو استغلال أرض بشهادة شهود)، في بعض الليالي يصل عدد الإشهادات إلى 20 إشهادا، بشهود وعدلين مدفوع لهم لا علاقة لهم بالمنطقة، وجميعهم من أكادير”.

وحللت “هوامش” العشرات من الوثائق المتعلقة بهذه القضية، وثبت أن العملية تكررت مع الكثير من الأراضي، رسومات “إشهاد، شهادات لا تنتمي، عقود تنازل، عقود قسمة، عقود بيع أو كراء”، كما تكررت أسماء ذات الشهود مع نفس العدلين، وتكرر التسجيل خارج طاطا.

تقدم بونعيلات بشكاية إلى وكيل الملك بطاطا، لكنه تفاجأ بأن شكايته “تم حفظها بقدرة قادر، فتوجهنا إلى الوكيل العام بأكادير، وقدمنا شكاية لإخراج الشكاية الأولى من الحفظ، قبلها وتتبع القضية، وأعطى الأمر للشرطة القضائية بأكادير باستجواب العدول، لكن الشكاية بقيت في الدرج” يقول بونعيلات في لقائنا به.

أعاقت الإجراءات الاحترازية، التي أقرت بسبب جائحة كوفيد-19، تقدم الملف، فانتظر بونعيلات مدة سنتين ونيف، وبعد رفع الإغلاق، حمل وثائقه مرة أخرى وعاد إلى الوكيل العام بأكادير، هذا الأخير، حسب رواية بونعيلات، استغرب من التأخير والمماطلة بالقول “يا عجبا، حتى النيابة العامة يكذبون عليها”.

“طلب منا جلب الشهود، حضروا من طاطا، فتحت الشكاية، تم الاستماع إلى العدلين، وأرسلت إلى وكيل الملك في طاطا لإكمال البحث والاستماع إلى الأطراف هنا، لكننا فوجئنا بأن القضية حفظت مرة أخرى”، يقول عبد اللهِ بونعيلات.

“عدول” مصابٌ بـ”فقدان الذاكرة” يوثق العقود!

أثناء البحث والتقصي، لم نستطع الوصول إلى أيٍّ من العدلين، لكننا استطعنا الحصول على شهادة طبية مؤرخة في 26/11/2020، وموقعة من طرف الدكتور زهير العوينة، اخصائي بالجهاز العصبي بمدينة أكادير، تؤكد أن العدل بالمحكمة الابتدائية بأكادير، محمد تلمات، الذي يتكرر اسمه في كل وثائق بيع وشراء وتفويت الأراضي بما فيها التي بيعت لعبد الرحيم نفيسو، “مصاب بمرض عصبي مزمن”.

الشهادة الطبية، تقول إن تلمات، “يعاني من نسيان تدريجي مع ترديد كلمات، إن الأمر يتعلق بفقدان الذاكرة حديث العهد”، وأن حالة المريض “تستلزم وجود شخص آخر يتكلف به”.

يستنتج من هذه الشهادة الطبية أمران؛ وفق المصادر التي استشارتها “هوامش”، الأول أنها “مزورة يحاول العدل التهرب بها من العدالة”، والثاني “أنها تؤكد عدم صحة تلك العقود، فهي موقعة من شهود زور وعدل فاقد للذاكرة”.

ومن أجل معرفة الرأي القانوني، عرضت “هوامش” هذه الوثائق والشهادة الطبية، على خالد الإدريسي، المحامي بهيئة الرباط، قصد تحليل معطياتها والاستشارة حولها، والذي علّق بداية أن “علينا معرفة هل هذه شهادةٌ طبيةٌ حقيقية أم هي شهادة مجاملة”.

وأضاف الإدريسي “من المحتمل أن تكون الشهادة ذريعة للهروب من المسؤولية الجنائية، فالعدل يعرف أن التورط في التزوير يعاقب عليه بعشر سنوات سجنًا نافذًا”. ولذلك، حسب الإدريسي “على النيابة العامة إجراء خبرة مضادة للتأكد من صحة ما جاء فيها”.

ويواصل محدثنا “رغم كونه مريضًا فهذا لا يزيح المسؤولية عن العدل الثاني، فإذا ثبت تورطه وجبت محاسبته، كما يجب على النيابة الأخذ بالاعتبار متى أصيب العدل بفقدان الذاكرة، وهل قام بتوثيق العقود قبل أم بعد إصابته بالمرض”.

الشهادة الطبية، تفيد أن المرض “حديث العهد”، ولكن وثائق متعددة تتوفر عليها “هوامش”، موقعة من نفس العدلين، تعود لسنة 2016، أي ثلاث سنوات قبل الحصول عليها، وهو ما يحتمل أنها “شهادة مجاملة”، تستلزم “خبرة طبية” لقطع الشك باليقين.

عرضنا هذه الوثائق أيضًا على المحامية بهيئة سطات، دلال المخنطار، والتي بدورها رأت أنه “يجب عرض هذا العدل على خبرة طبية يعهد القيام بها إلى أحد المتخصصين، للتأكد من صحة ما جاء في الشهادة الطبية”.

وأضافت المخنطار، في حديثها لهوامش “في حالة ثبوت مرضه، يكون مآل كل العقود التي وقعها هو البطلان، لأنه فاقد للأهلية”.

استطعنا كذلك الحصول على محضر استماع للعدل هلاوي يوسف، في إطار بحث قام به نائب الوكيل العام للملك، بمحكمة الاستئناف بأكادير، حيث أكد المصرح “أن الإشهادات لا تعطي للشخص الحق في ملكية العقار وإنما استغلال الملك المشهود فيه”.

وقال هلاوي في تصريحه للنيابة العامة، “لا أتذكر عدد رسوم الحيازة والاستغلال التي أشرفت على تحريرها رفقة العدل تلمات محمد، لأن تاريخ بداية تحريرها يعود تقريبًا إلى سنة 2016”.

ووضح العدل أثناء الاستماع إليه المسطرة التي يتبعها في إنجاز الوثائق التي يشهد عليها “نستفسر طالبي الشهادة عن السبب والداعي إلى إقامة بينة الاستغلال فيكون جوابهم هو: من أجل الاستفادة من الدعم في إطار المخطط الأخضر الفلاحي”. مؤكدا أن طالبي الإشهادات بالحيازة، البشير الحاج واليزيد بن يحيى، “هما اللذان يتوليان إحضار شهود اللفيف الذين لا نعرفهم ولا علاقة لنا بهم”.

مع تراكم المعطيات والوثائق والأسئلة، اتصلنا بالباشير الحاج واليزيد بن يحيى، لمواجهتهما بما نتوفر عليه والحصول على روايتهما. كان الإثنان معا لحظة الاتصال بهما، فرحبا بلقائنا، وضربا لنا موعدا في اليوم الموالي.

عندما حان الموعد لم يأت أحد، اتصلنا بهما عشرات المرات، دون رد، بعثنا برسالة إلى الحاج البشير، لكنه رد باقتضاب موضحا أنه “بعيد عن طاطا وأنه لن يعود قريبا”. 

ولكن من الصدف أن أحد مرافقينا، مساء نفس اليوم ونحن بالشارع، أشار إلى شخصين في سيارة قائلا “أنظر هؤلاء هما الباشير واليزيد، إنهما هنا وليسا خارج طاطا كما يدعيان”.

آبار سقي الدلاح.. سحبت الماء وقتلت الواحة 

الآبار التي حفرت بالإقليم لم تسق “الدلاح” وتملأ جيوب مزارعيه فقط، بل قتلت نخيل جماعة “أم الكردان”، جففت آبارها وعيونها، فلم يسلم منها أي دوار، والمشهد الذي رأيناه لأشجار النخيل وهي تتكوّم ميتة من العطش، كان كئيبا.

في “واحة تزارت”، التي أصبحت أثرا بعد عين، قابلنا أوحساين مبارك، عضو “جمعية عين تارحالت”، إحدى أكبر العيون المائية الموجودة في جنوب طاطا، والتي جف ماؤها. يجلس أوحساين على جذع نخلة ميتة وهو يتحدث إلينا مستعيدا زمنا غير بعيد “كانت هذه العين تسقي أكثر من مائة ألف هكتار، والآن لم تعد بها قطرة واحدة، نشفت، والسبب هو الآبار التي حفرت في نواحي العين منذ سنة 2018″.

أوحساين الذي ورث أرضا بالمنطقة يتوفر على وثائق ملكية عمرها أكثر 600 سنة، ذكر بها تواجد هذه العين، “الواحة متضررة بالكامل، هناك من فقد ما بين أربعة آلاف إلى عشرة آلاف نخلة، كل شخص هنا فقد عددا مهما من النخل”، يقول أوحساين، ويضيف ” آخر قطرة خرجت من هذه العين كانت سنة 2020″.

في شهر مارس 2021، أصدر عامل إقليم طاطا، قرارا عامليا تحت رقم 38، يعلن بموجبه “إقليم طاطا منطقة متضررة من الجفاف”، عندها بدأت حملة لطمر الآبار غير القانونية في الإقليم.

وقبل ذلك في سنة 2020، أصدرت “وكالة الحوض المائي لدرعة وادنون”، التي يتبع إقليم طاطا لنفوذها، قرارًا بغلق الآبار غير المرخصة.

حصلت “هوامش” على رسالة من اليزيد بن يحيى، إلى مدير “وكالة الحوض المائي لدرعة واد نون”، بتاريخ 11 غشت 2020، يقول فيها “لم أكن أعلم أن الآبار القديمة تتطلب الحصول على رخصة من وكالتكم، غير أني في احترام القرارات والاجراءات القانونية وفي بادرة حسن نية فقد قمت باغلاق الآبار المشار إليها”.

كما حصلنا على “محضر معاينة”، من قائد قيادة أديس ورئيس جماعة أم الكردان، وممثلين اثنين عن “وكالة الحوض المائي لدرعة وادنون”، يؤكد “إغلاق البشير بن يحيى للآبار عن طريق الاسمنت، وقد تم توجيه تحذير له بخصوص أية محاولة لإعادة استغلال هذه الآبار المغلقة”.

هذه الآبار وغيرها، التي أغلقت “تم فتحها مرة أخرى”، حسب مصادر متعددة، من بينها مزارع كان يزرع “الدلاح”، وتوقف عنه.

عبد الله بونعيلات يؤكد ذلك، “الآبار تغلق ويتم فتحها بعد شهر، كما يتم حفر آبار جديدة، وبرشوة تقدم للسلطات حتى يتم شراء صمتها”. ويؤكد بونعيلات لـ”هوامش”، أن رجال السلطة “يطلبون مبلغ 2000 درهم مقابل حفر بئر دون رخصة، ويتكفل بعملية السمسرة حفار آبار سوري الجنسية “.

ويشدد الرجل على أن رجال السلطة “غارقون في الرشوة إلى الحلق، إذ يأخذون مبالغ مالية تتراوح بين مليونين إلى عشرة ملايين سنتيم -بين 20 ألف درهم إلى 100 ألف درهم- من فلاحي الدلاح حسب حجم المساحة المزروعة وحجم الخروقات”.

ودعنا عبد الله بونعيلات، وتركناه ينظر إلى الخراب الذي أصبحت عليه الواحات، يتحسر على المستقبل ويخشى أن يستيقظ يومًا ولا يجد أحدًا بالجوار، فالعطش قد يؤدي إلى تهجير قسري للساكنة .

انتقلنا إلى دوار “تزارت”، لمقابلة الشرقاوي الحسن، أحد المتضررين المباشرين من زراعة الدلاح؛ وجدناه ينتظرنا تحت ظلِّ آخر نخلةٍ وطلحةٍ بقيتا حيتين على أرضه، فَقَدْ فَقَدَ الرجل 2000 نخلة كانت توفر فرص عمل وتدر عليه مدخولا يعيله وأسرته، ولكن كل ذلك صار قاعًا صفصفًا.

“نضبت مصادر الماء، ولم تبق لدي أية نخلة، فقدت تقريبًا ألفي نخلة، ماتت، بقيت نخلة وطلحة ونصف نخلة”، يقول الشرقاوي بحسرة.

هذا الطاطاوي المفجوع في واحته الموؤدة، يضيف في شهادته على المأساة لـ”هوامش”، “المنطقة فقدت 240 بئرًا، لم تعد بها قطرة واحدة، جفت كلها وسببها مزارعو الدلاح، اللذين حفروا الآبار في كل أنحاء المنطقة، ومن كل اتجاه، حفروا من الجنوب، من الشرق والغرب”.

الشرقاوي يؤكد بمرارة أن السلطات ساهمت في كل هذا، بأن “دعمت المزارعين الغريبين عن المنطقة، وساهمت في استنزاف الفرشة المائية التي جفت”.

دعم السلطات لمزارعي “الدلاح”، تؤكده مصادر متعددة من طاطا، من بينها عضو في الغرفة الفلاحية، “إنهم مستفيدون من دعم مخطط المغرب الأخضر”.

دلاح مدعم من “صندوق التنمية الفلاحية” 

عندما خرجت الساكنة للاحتجاج في “مسيرات العطش” التي استمرت لمدة 46 يومًا، ضد تواجد الزراعة المستنزفة للماء، والتي على إثرها أصدر عامل الإقليم قرارا يمنع زراعة الدلاح، سارعت المديرية الإقليمية للفلاحة بطاطا إلى تنبيه المستفيدين من الدعم بوجوب “الالتزام بغرس الزراعات التي تمت الموافقة عليها من لدن المصالح التقنية بالمديرية في وقتها المحدد”.

وهددت المديرية في إعلان غير مؤرخ، يحمل ترويستها وختمها، كل المخالفين بـ”اتخاذ الاجراءات القانونية الجاري بها العمل بما فيها استرداد الدعم الذي استفاد منه المعنيون بالأمر”.

وبشأن هذا الإعلان، يقول لـ”هوامش”، المقاول الطاطاوي الشاب، -والذي لا ينفي أنه كان يزرع “الدلاح” وتوقف عنه- “منذ 2018 والدلاح يزرع جهارا نهارا في طاطا، ويحمل منها إلى كل ربوع المغرب، فكيف لم تتحرك المديرية؟، إنهم يعرفون كل من استفاد من الدعم وكان يزرع الدلاح… هم فقط يحاولون رمي جمرة متقدة من أيديهم”.

الاستفادة من “صندوق التنمية الفلاحية”، يؤكدها لـ”هوامش”، الفاعل المدني بطاطا، عضو “حركة مغرب البيئة 2050″، مبارك أوتشرفت، “الفلاحون في طاطا استفادوا من صندوق التنمية الفلاحية ومخطط المغرب الأخضر، وجهزوا بالدعم هكتارات للزراعة، ولكن للأسف أغلبيتهم لم يحترموا ما ينص عليه دفتر التحملات، من قبيل نوع الزراعة المسموح به”.

“وبعد توافد لوبي الدلاح من مناطق هوارة وتارودانت على طاطا، أصبح الفلاح الطاطاوي أيضًا يقوم بزراعة الدلاح، رغم أن القانون لا يخول له ذلك، إذ يفرض عليه الالتزام بالمزروعات التي وردت في طلب الدعم لمدة خمس سنوات دون تغيير نشاطه الزراعي” يقول أوتشرفت. 

للاستفسار حول هذه القضية اتصلت “هوامش” بالمدير الاقليمي للفلاحة بطاطا، علي الحسناوي، والذي طلب من معد هذا التحقيق، “إرسال الأسئلة مكتوبةً عبر البريد الإلكتروني”، وتم ذلك بالفعل، ولكن لم نتوصل بأي رد حتى لحظة نشر التحقيق. 

طاطا: مكان لا يصلح لزراعة “الدلاح” 

تجمع المصادر التي استشارتها “هوامش” على أن إقليم طاطا غير صالح لزراعة البطيخ الأحمر، حيث أن للمنطقة خصوصية فلاحية؛ وهذا ما يؤكده عبد اللطيف بلقايد، المهتم بالمجال الفلاحي، والذي أوضح في مقابلة معه أن “الفلاحة في إقليم طاطا، أساسا فلاحة معيشية، تتناسب مع النظام الواحاتي الذي لا يقبل مزارع وضيعات كبرى جنبه، نظرا لندرة الأمطار وقلة الماء”.

ويوضح بلقايد، أن الزراعات التي تناسب الإقليم هي “زراعة النخيل وزراعة الفصة، البصل والحناء، بالإضافة إلى التمور التي تشتهر بها المنطقة، والتي انقرضت الكثير من أنواعها بسبب توالي سنوات الجفاف”.

“وبدل تثمين هذا المنتوج المحلي، وابتكار وسائل جديدة للحفاظ عليه، صدمنا بقدوم زراعة الدلاح، الجديدة على الواحة، والتي تستنزف الفرشة المائية، والدليل هو العيون التي جفت، والتي كانت المصدر الرئيسي والوحيد لنظام السقي هنا”، يقول بلقايد.

الشاب الذي كان من بين الذين خرجوا ضد تواجد زراعة “الدلاح”، يشدد على ضرورة “قيام المسؤولين والمشرفين على القطاع الفلاحي بمساعدة الفلاح على تطوير أرضه ومحاربة الأمراض التي تنخر النخيل”.

من جانبه، مبارك أوتشرفت، رئيس “منتدى إفوس للديمقراطية وحقوق الإنسان”، وعضو “حركة مغرب البيئة 2050″، أكد في مقابلته مع “هوامش”، أن إقليم طاطا لا يصلح لزراعة “الدلاح”، فهو “ذو مناخ جاف، ويعيش ندرة مياه مؤكدة بدراسات دولية ووطنية، حذرت من زراعة البطيخ الأحمر الذي يستهلك كميات كبيرة من الماء”.

وأشار أوتشرفت إلى أن “مياه الإقليم تعاني من توالي سنوات الجفاف، ومن استنزاف زراعة الدلاح للماء”، مؤكدًا أن الدراسات التي أجريت على مستوى جماعة “فم الزگيد”، “أثبتت أن مشكل الماء سببه خمس سنوات من زراعة الدلاح، ما اضطر السكان إلى التنقل للبحث عن الماء الصالح للشرب”.

إيقاف زراعة الدلاح.. قرار مؤقت يخيف الساكنة 

بعد 42 يومًا من الاحتجاجات التي شهدتها طاطا وجميع الدواوير التابعة لها، صدر قرار عاملي بإيقاف زراعة الدلاح، لكنه قرار مؤقت تتوجس منه الساكنة، خشية أن يتم التراجع عنه، فدفاع العامل عن مزارعي “الدلاح” يخيفها ويفقدها الثقة.

ويرى المعتقل السياسي السابق سيدي بابا، أن القرار جاء متأخرا، وأكد في تصريح لهوامش أنه “قرار مؤقت، وغدا أو بعد غد يمكن أن يُسمح لهم بالزراعة مرة أخرى، لأنه لا يوجد منع بصفة نهائية”. فيما يؤكد أحمد حام، أنه لا حل مع هذه المعضلة إلا “بتضافر الجهود لإصدار قانون يمنع زراعة البطيخ الأحمر في المناطق الواحية”.

ويفسر سيدي بابا تخوف الساكنة من هذا المنع المؤقت، حيث أن “قرار العامل السابق الذي أعلن طاطا متضررة من الجفاف، لم يردع أحدا، بل استمرت الزراعة حتى ضاق الأمر بالساكنة التي لم تجد الماء لا في طاطا المركز ولا في الدواوير المحيطة بها”.

وفي هذا السياق يرى سيدي بابا أن على السلطات اليوم “المبادرة بإطلاق مشاريع لإعادة إحياء الواحة، ودعم الزراعات النظيفة التي كانت تعرفها طاطا، والتي تعتبر صديقة للواحة”.

وبينما لاتزال الساكنة واقفة على أظافرها خوفًا وخشية من عودة زراعة “الدلاح”، لايزال الجمر حارًا تحت الرماد، والشاحنات الصهريجية مازالت تتجول بين الدواوير جيئةً وذهابًا؛ لملء الصهاريج البلاستيكية بعدما غادر الماء الإقليم في جوف “الدلاح”، كما لايزال عبد الله بونعيلات ينتظر تحقيق العدالة ضد “مافيا العقار” التي أصبحت واجهةً لـ”كارتيل الدلاح” ومدافعًا عن تواجده في الإقليم. 

أما الآخرون كأوحساين والشرقي فلازالت مرارة العيون التي جفت، والنخل الذي مات، عالقةً في حلوقهم وتدمي قلوبهم حزنا وكمدا، فيما ستبقى لسنواتٍ طوالٍ أطنانُ البلاستيك الأسود الذي خلفته هذه الزراعة تنخر الأرض، وخطرا يهدد الكائنات الحية لمدة تتجاوز خمسة قرونٍ من الزمن. 

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram