عماد استيتو
قضت محكمة الاستئناف بالرباط، بالسجن النافذ 20 عاما و10 سنوات في حق المتهمين باغتصاب الطفلة القاصر في تيفلت، بعد أن خلف الحكم الابتدائي (18 شهرا وسنتين سجنا) ردود فعل غاضبة من طرف الحقوقيين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، وتصاعدت إثره المطالبات بتشديد الأحكام السجنية على المتابعين الثلاثة الذين استفادوا من ظروف تخفيف “قياسية”.
الحكم القضائي الابتدائي بالسجن سنتين سجنا نافذا في حق المتهم الرئيسي و18 شهرا على اثنين آخرين، بعد إدانتهم بجناية “التغرير بقاصر بالتدليس، وهتك عرضها بالعنف الناتج عنه افتضاض” كانت ضحيتها طفلة قاصر يبلغ عمرها 11 ربيعا- حسب نشطاء حقوقيين- في مدينة تيفلت، (الحكم) أثار موجة غضب حقوقي عارم، تستنكر عدم تناسب العقوبة التي خلصت إليها هيئة الحكم، بمحكمة الاستئناف بالرباط، مع فظاعة الأفعال التي أدين بها المتهمون الثلاثة.
في هذا المقال، وعن طريق جرد إحصائي، قمنا به، لأزيد من 119 قضية اغتصاب صدرت فيها أحكام ابتدائية (يمكن الإطلاع عليها عبر الضغط هنا)، خلال شهر مارس المنصرم، تبين لـ “هوامش” أن الحكم الصادر في ما أصبح يعرف بقضية طفلة تيفلت لم يكن حالة استثنائية، بل يمثل سلوكا قضائيا ونمط ممارسة محافظ قائم الذات ينهجه القضاة المغاربة – معظمهم من الذكور – في جرائم العنف الجنسي، إذ نادرا ما يصدرون جزاءات مطابقة لما ورد في النص القانوني.
يعرف الفصل 486 من القانون الجنائي المغربي الاغتصاب على أنه “مواقعة رجل لامرأة دون رضاها”، ويعاقب عليه بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، غير أنه إذا كانت سن المجني عليها تقل عن ثمان عشرة سنة أو كانت عاجزة أو معاقة أو معروفة بضعف في قواها العقلية أو حاملا، فإن الجاني يعاقب بالسجن من 10 سنين إلى عشرين سنة.
وتشدد العقوبة على الفاعل لتصل في بعض الأحيان إلى 30 سنة، إذا كان من أصول الضحية أو ممن لهم سلطة عليها أو وصيا عليها، أو خادما بالأجرة عنده أو عند أحد الأشخاص السالف ذكرهم، أو كان موظفا دينيا أو رئيسا دينيا، وكذلك أي شخص استعان في اعتدائه بشخص أو عدة أشخاص.
لكن، وعلى عكس الاعتقاد السائد، فإن الحكم المخفف الصادر في قضية تيفلت، ورغم كونه صادما، فإنه لا يشكل استثناء، بل قاعدة في قضايا الاغتصاب التي تنظر فيها المحاكم المغربية، حسب التحليل الذي قمنا به.
و تكشف الممارسة القضائية في المغرب واقعا مخيفا، حيث تظهر معظم الأحكام الصادرة في قضايا الاغتصاب في السنوات الأخيرة، والتي اطلعت “هوامش” على عينة مهمة منها، أن معظم المدانين بارتكاب جناية الاغتصاب قد نالوا عقوبات حبسية أدنى مما ينص عليه القانون الجنائي.
نادرة هي الأرقام والإحصائيات التي تتناول بشكل دقيق الأحكام القضائية الصادرة في ملفات الاغتصاب خصوصا، والاعتداءات الجنسية عموما، في المغرب. حيث تكتفي معظم التقارير الرسمية وغير الرسمية بجرد عدد الحالات وتسليط الضوء على بعض القضايا التي تكون موضوع نقاش عمومي، بسبب تناولها إعلاميا، دون إخضاع هذه المعطيات للتحليل.
حصلت هوامش على دراسة نشرها ائتلاف “ماساكتاش” (لن أسكت) الحقوقي، مطلع سنة 2020، وتناولت عينة من 1169 قضية اعتداء جنسي راجت أمام 21 محكمة مغربية خلال مدة شهر واحد من سنة 2019، وتعتبر هذه الدراسة المرجع الوحيد الذي يسمح بتكوين فكرة عامة عن سلوك القضاة المغاربة في هذه القضايا.
خلصت هذه الدراسة حينئذ إلى أن 80 بالمئة من مجموع المدانين في قضايا الاعتداءات الجنسية قد حصلوا على عقوبات سجنية أقل مما ينص عليه القانون الجنائي. فلم تعادل أو تتجاوز الأحكام الصادرة في حق المدانين 5 سنوات حبسا نافذا إلا في 20.3 % فقط من مجموع الحالات موضع الدراسة.
فيما صدرت أحكام بعقوبات حبسية تقل عن هذه المدة، في 58.3 بالمئة من قضايا الاغتصاب، بينما صدرت أحكام موقوفة التنفيذ في 21.4 بالمئة من هذه القضايا. وبلغ متوسط العقوبة على المستوى الوطني بالنسبة للمدانين في قضايا الاعتداء الجنسي 3.1 سنوات حبسا نافذا فقط.
كما لاحظت الدراسة الفريدة من نوعها، أن 60 % من المتابعين في قضايا اعتداءات جنسية قد مثلوا أمام المحاكم في حالة سراح، وهي النتائج نفسها التي توصل إليها تقرير صادر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان مؤخرا، إثر متابعته لـ 118 قضية عنف ممارس على النساء ما بين سنتي 2018 و2022.
ترى المحامية ليلى سلاسي، واحدة من مؤسسات ائتلاف “ماساكتاش”، أن الحكم الابتدائي الصادر في قضية طفلة تيفلت، وقبله في قضايا مماثلة في السنوات التي تلت هذه الدراسة، يؤكد عدم حصول أي تطور نوعي في منهجية أو طريقة معالجة القضاء المغربي لهاته النوعية من القضايا منذ سنة 2019.
يكشف تحليل “هوامش” للبيانات الرسمية المنشورة على البوابة الرسمية Mahakim.ma، عن استمرار القضاة المغاربة في نفس نمط تخفيف الأحكام القضائية في ملفات الاعتداء الجنسي بشكل تلقائي، إلا في حالات معدودة.
وتوصلت “هوامش” إلى تطابق بين هذه النتائج التي تهم قضايا تم البت فيها سنة 2023 وما توصلت إليه دراسة ائتلاف “ماساكتاش” عن قضايا تم البت فيها سنة 2019.
وفق نتائج تحقيق “هوامش” لم تتجاوز نسبة القضايا التي صدرت فيها أحكام بالإدانة بجناية الاغتصاب 63.86 %، بينما تمت تبرئة 15.96 % من المتابعين من تهمة الاغتصاب، فيما جرى إعادة تكييف هذه التهمة إلى جرائم أخرى في 20.6 % من الحالات المعروضة على المحاكم المغربية خلال شهر مارس المنصرم.
وفي نتيجة دالة أخرى ، حصل أزيد من 71 % من المدانين بجناية الاغتصاب على عقوبات قضائية أدنى مما ينص عليه القانون الجنائي،حيث احترم نص القانون الجنائي المغربي بحذافيره في 22 حكما قضائيا فقط في القضايا التي توصل فيها القضاة إلى مؤاخذة المتهمين بجناية الاغتصاب.
وفاقت نسبة المدانين بجناية الاغتصاب، من الذين حصلوا على أحكام سجنية أقل من 5 سنوات سجنا، نسبة 59 % من مجموع حالات الإدانة، كما قضت المحاكم المغربية على 17.42 % من المدانين بجناية الاغتصاب بأحكام موقوفة التنفيذ إما كليا أو جزئيا.
وكان لافتا أن أزيد من 77 % من الملفات التي صدرت فيها عقوبات بالإدانة تحترم ما ورد في القانون الجنائي قد تضمنت – كما اطلعنا على ذلك- متابعات بتهم ثقيلة أخرى إلى جانب جناية الاغتصاب، مثل : الاختطاف، الاحتجاز، السرقة، التهديد، الضرب والجرح باستعمال السلاح، تكوين عصابة .. وغيره، وهو ما يرجح ما تعتقده المحامية ليلى السلاسي بأن تشديد العقوبة لم يكن بسبب تشكل قناعة لدى القضاة بخطورة فعل الاغتصاب.
“هذه ملاحظة أساسية ودائما ما تتكرر، من النادر والمستبعد جدا أن يصدر القضاة أحكاما مشددة بالسجن النافذ على المتهمين، حينما تكون المتابعة مبنية على جناية الاغتصاب أو غيرها من جرائم العنف الجنسي لوحدها، لكنهم يصدرون أحكاما قاسية حين تكون تهمة العنف الجنسي مقرونة بجرائم أخرى يعاقب عليها القانون بعقوبات كبيرة، تصير تهمة الاغتصاب هنا ثانوية بالنسبة للقضاة الذين يعتبرون أن الجرائم الأخرى أكثر خطورة أو أن تعدد الجرائم يستحق عقابا قاسيا، وحتى فيما يخص المتابعة في حالة اعتقال فإننا نسجل ارتفاعها في الحالات التي يتابع فيها المتهم بجرائم أخرى إلى جانب جريمة العنف الجنسي” ، تشرح ليلى سلاسي لـ “هوامش”.
في السياق نفسه، بتت محاكم المملكة، خلال شهر مارس المنقضي، في 23 قضية واجه فيها المتهمون تهما بارتكاب جناية الاغتصاب في حق قاصرين، أي بنسبة تمثل 19.32 % من إجمالي قضايا الاغتصاب التي عرضت على جميع المحاكم المغربية. وجاءت نسبة الإدانة بالنسبة إلى مجموع المتابعات باغتصاب قاصرين أقل من النصف ( 47.82 %).
وسجلت “هوامش” احترام القضاة لنص القانون الجنائي فيما يخص تشديد العقوبة في الحالات التي يقل فيها سن الضحية عن 18 سنة في حالتين فقط، إذ صدرت أقصى العقوبات عن محكمة الاستئناف بأكادير، بتاريخ 30 مارس الماضي، حيث أدانت متهما باغتصاب قاصر، نتج عنه افتضاض وهتك عرضه بالعنف بالإضافة إلى اختطافه، بـ 15 سنة سجنا نافذا، كما أدانت محكمة الاستئناف في الدار البيضاء، يوم فاتح مارس متهما باغتصاب وهتك عرض ابنته بـ 10 سنوات سجنا نافذا، بينما تراوحت بقية الأحكام، في القضايا التي قضت فيها هيئات الحكم بالإدانة، ما بين سنة ونصف و6 سنوات سجنا فقط.
وإذا كان المشرع يوصي كذلك بأن تتراوح العقوبة بين 10 سنوات و20 سنة، في حالة إذا كانت الضحية معاقة أو معروفة بضعف قواها العقلية، فإنه من بين 9 قضايا من هذا النوع، عرضت على المحاكم المغربية طيلة شهر مارس، أدان قاضيان فقط متهمين باغتصاب أنثى معروفة بضعفها العقلي في بني ملال ب 10 سنوات سجنا نافذا وفي الدار البيضاء ب 15 سنة سجنا نافذا، فيما تراوحت بقية العقوبات، في 4 قضايا أخرى، انتهت كذلك إلى الإدانة، بين 3 و 7 سنوات سجنا نافذا.
تخلص ليلى سلاسي إلى أن القضاة في المغرب لا يجرون أي تمييز بين البالغين وبقية الفئات الهشة، وهم ينظرون في قضايا العنف الجنسي المعروضة أمامهم، “ينطبق الأمر نفسه سواء على البالغين أو القاصرين أوبقية الفئات الهشة، يتعامل القضاة بنفس المنطق مع هذه القضايا، لذلك من غير المستغرب أن نرى أحكاما موقوفة التنفيذ أو تتضمن عقوبات سجنية جد مخففة أو تكييف بعض المتابعات إلى جنح فساد”.
في قضية الاعتداء على الطفلة القاصر في تيفلت مثلا، ورغم توصل هيئة الحكم إلى ثبوت الأفعال المنسوبة إلى المتهمين الثلاثة، فإن الأخيرة استعملت “حقها في ممارسة السلطة التقديرية”، وقررت تمتيعهم بظروف التخفيف.
وجاء في تعليل الحكم الذي حصلت “هوامش” على نسخة منه :
“وحيث إن تحديد العقوبة وتفريدها في نطاق الحدين الأدنى والأقصى المقررين في القانون المعاقب على الجريمة المرتكبة يخضع لسلطة المحكمة التقديرية، التي تراعي في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية، وشخصية المجرم من ناحية أخرى، ولها أيضا أن تمنح المتهم ظروف التخفيف – ما لم يوجد نص قانوني يمنعها – كلما تبين لها أن الجزاء المقرر للجريمة في القانون قاس بالنسبة لخطورة الأفعال المرتكبة أو بالنسبة لدرجة إجرام المتهم .. وحيث تداولت هيئة الحكم في منح المتهمين ظروف التخفيف من عدمه فقررت تمتيعهم إياها، نظرا للظروف الاجتماعية لكل واحد من المتهمين، ولعدم سوابقهم القضائية، ولكون الجزاء المقرر قانونا لما أدينوا به قاس بالنسبة لخطورة الأفعال المرتكبة وبالنسبة لدرجة إجرامهم، طبقا للفصلين 146 من ق ج والفصل 430 من قانون المسطرة الجنائية، ويتعين تبعا لذلك النزول بالعقوبة المقررة قانونا عن حدها الأدنى مع تطبيق الفصل 147 من القانون الجنائي”.
و تابعت : “القضاة المغاربة ومعظمهم من الذكور يعتقدون عموما أن هذه العقوبات الواردة في القانون قاسية جدا ولا تتناسب مع طبيعة الأفعال المرتكبة، العقل القضائي ما زال لا يستوعب خطورة وآثار جريمة الاغتصاب على المجني عليهم، وينظر لها على أنها جريمة تأتي في درجة متأخرة عن جرائم أخرى تهدد سلامة الأشخاص”.
علاوة على ما سبق، وقفت “هوامش” من خلال الاطلاع على الأحكام الصادرة في الـ 119 قضية، على وجود تفاوت واختلاف بين المحاكم في التفسير أو التكييف فيما يخص جناية الاغتصاب ومجموعة من الأفعال المتشابهة، نتيجة لعدم وضوح التعريفات، أو فيما يخص بعض الأفعال التي تشكل ركنا من أركان جريمة الاغتصاب، وهو ما ينتج أحكاما متباينة في قضايا من نفس النوع، وأحيانا داخل نفس المحكمة.
وفي هذا الإطار، دعا المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى إعادة تصنيف جريمة الاغتصاب واعتبارها جريمة ضد الحق في الأمن الشخصي والسلامة البدنية والجنسية والنفسية للأفراد، وليس كاعتداء على الأسرة والأخلاق. مشيرا إلى أن القانون الجنائي لا يتضمن تعريفا واضحا لمفهومي الاغتصاب وهتك العرض، مسجلا وجود توجه نحو إعطاء الطابع الجنحي لقضايا عنف ضد النساء قد تتخذ وصف جنايات.
*للاطلاع على تفاصيل القضايا 119 التي صدرت بخصوصها أحكام ابتدائية في مارس 2023 (أنقر هنا)