سامي صبير
الساعة تتجاوز الثامنة مساء، الجو بارد في ساحة الكتبية، يقترب نور الدين من المارة بحذر، يستوقفهم ويلح عليهم أن يشتروا منه قطعة حلوى. منظر الطفل مألوف في هذا المكان، بسروال جينز وقميص صوفي حاملا علبة (كارطون) تحتوي على (البسكويت).
يبلغ نور الدين 9 سنوات من العمر، وهو يرابط بشكل يومي على الرصيف، يراقب العابرين ويستجدي عطفهم عله يحظى بدرهم أو إثنين؛ فرغم صغر سنه وجد نفسه مرغما على العمل.
غير بعيد عن نور الدين يجلس ثلاثة أطفال جمعهم التشرد، يتخذون من الورق المقوى (الكرطون) فراشا لهم أمام محل بممر الأمير “Le prince”، هؤلاء وآخرون عينة من أطفال أرض البهجة المحرومين، الذين التقت بهم منصة هوامش، واستمعت لقصصهم، من أجل نقل فيض مآسيهم وأحلام طفولتهم المسلوبة.
يواجهونك بالخوف، وبالفضول أحيانا، حين تقترب للحديث معهم يبلغك إحساسهم بعدم الأمان. بعضهم يظهر الغضب أو القسوة، كأسلوب للدفاع عن النفس والتحذير مسبقا من رد الفعل في حالة ما كنت تضمر لهم السوء.
بالقرب من حديقة عرصة البيلك، يجلس رضوان البالغ من العمر 17 سنة، يعرض علب المناديل الورقية، مظهره يوحي بأنه “متشرد”.
ينحدر رضوان من مدينة الرباط، ولم يتمكن من ولوج المدرسة بسبب ظروفه الأسرية واضطراره إلى مغادرة المنزل في سن مبكرة؛ يقول في حديثه مع هوامش: “لجأت إلى الشارع بعد انفصال والديّ، كان عمري حينها 8 سنوات، بعد الطلاق عشت مع والدي وجدتي، وبسبب المعاملة القاسية التي كنت أتعرض لها داخل المنزل خرجت للعيش في الشارع، تنقلت بين الدار البيضاء وطنجة والآن أنا في مراكش”.
حكاية الطفل رضوان تفيض بالمآسي، خاصة عندما يعود بشريط ذكرياته إلى الوراء ويقارنها بالمشاهد التي يصادفها يوميا بينما يجوب الأرصفة، أو يجلس على جنبات الطريق، يعرض على المارة بضاعته البسيطة التي لا يتجاوز رأسمالها 15 درهما، وهي عبارة عن علب مناديل ورقية وبضعة بالونات ملونة.
لا تخفى نبرة الحزن في صوت رضوان وهو يتحدث إلينا، “أحيانا أراقب الأسر التي تمر من أمامي وأعرض على أحد الأطفال بالونا لحث والده على شرائه، وحين يرفض أتذكر ردة فعل والدي في مثل هذه المواقف حين كان يرفض طلباتي” يقول رضوان.
ما أن بدأ الحديث حتى شرعت المشاهد تتداعى أمامه، يقول مسترسلا “أكثر المشاهد التي تؤثر فيّ، هي رؤية أمّ وهي ترافق ابنها إلى المدرسة باكرا في البرد القارس، أشاهد جلبابها الدافئ وزي ابنها فأغمض عيني وأتخيلها تعد الإفطار، أتخيل نفسي مكان ذلك الطفل متوجها إلى المدرسة، لو كان حال أسرتي أحسن لتعلمت أنا أيضا القراءة والكتابة”.
تتقاطع قصة رضوان مع واقع كل من أيوب (17 سنة)، وآدم (15 سنة)، إلى جانب رضى (18 سنة)، فالثلاثة وجدوا بدورهم في شوارع “أرض البهجة” ملاذا لهم، ولا يكفون يتجولون بمحيط جامع الفنا بحثا عن قوت يومهم.
ينحدر رضى من ضواحي جماعة المرس بإقليم بولمان، أما أيوب فينحدر من فاس وآدم من ضواحي مدينة أكادير، ويبرر الثلاثة إنتهاء الأمر بهم في الشارع برغبتهم في تغيير واقعهم المأساوي والهروب من واقع أسري قاس. وحسب تصريح آدم شكل انفصال والديه الحافز لاتخاذ قراره بمغادرة البيت والانقطاع عن الدراسة، وكان قد بلغ السنة الثالثة إعدادي، أما رضى وأيوب فقد كان العنف الأسري هو المحرك الأساسي في فصول حكايتيهما.
جمعت مراكش التي تعرف أيضا بأرض الله، الأطفال الأربعة بعدما لفظهم واقع أسري يطبعه التفكك والعنف؛ يقول رضا “الحملة، لقد أتت بنا الحملة، أمسكت بنا الشرطة بمدينة الناظور بعد فشل محاولاتنا الهجرة إلى أوروبا. أخلوا سبيلنا في الدار البيضاء ومنها استقللنا الحافلة إلى مراكش”.
معظم الأيام متشابهة بالنسبة لرضوان، وقد توقف عن عدّ السنوات التي أمضاها يتجول على أرصفة الشوارع، هربا من العنف الجسدي والنفسي الذي كان يتعرض له داخل منزل والده؛ موضحا في حديثه بأن حياة التشرد كانت أهون بالنسبة له من العودة للعيش مع والده وجدته؛ حيث كان يتعرض لسوء المعاملة. ويضيف “كان والدي، الذي يمضي أغلب الوقت في السجن بسبب الاتجار في المخدرات، يعاملني بقسوة؛ وهذا ترك لي عدة ندبات على مستوى اليد، وكذلك جدتي كانت تحتقرني وتسيء معاملتي إلى أن غادرت المنزل في اتجاه مركز للإيواء، حاولت التواصل مع والدتي لكنها رفضت استقبالي ولا أعلم الآن أين تعيش”.
لا تختلف قصة رضى كثيرا عن قصة رضوان، فهو بدوره يتحدث عن المعاملة القاسية من طرف زوجة أبيه. “عشت معها مدة سنتين، اضطررت خلالهما إلى الانقطاع عن الدراسة في السنة الأولى إعدادي، وأعقبتهما 4 سنوات من الاستغلال من طرف عمي في رعي الماشية، كنت مثل الخماس عنده؛ فقررت الهروب إلى الشارع”، أما أيوب فيرفض مقارنة حال رفيقيه مع ما عاشه من عنف رفقة والدته وشقيقته بسبب إدمان والده للخمر؛ والذي كان يصل حسب تصريحه أحيانا إلى الاعتداء باستعمال أدوات حادة.
علاوة على العنف الذي عاشه هؤلاء الأطفال داخل المنازل، يواجهون الآن عنفا آخر في الشارع من طرف أقرانهم أو المارة. واقع فرض عليهم التكتل كي لا يكونوا لقمة سائغة للآخرين، يوضح أيوب قائلا “يحاول الصبية أحيانا الإعتداء علينا، فنواجههم نحن الثلاثة لدفعهم إلى التراجع أو الفرار خوفا منا”.
قبل عودته إلى الشارع، قضى رضوان فترة ليست قصيرة بمركز حماية الطفولة، بمدينة الرباط، ويحكي لنا قائلا “أمضيت نحو سنة ونصف تلقيت خلالها تكوينا في حرفة النجارة، ثم بعدها بدأت رحلة الفرار من مراكز الإيواء والعودة إلى الشارع، بسبب تعرضي للتعنيف داخل المركز”.
وحسب تصريح كل من أيوب ورضوان، معظم الأطفال الذين يفضلون العيش في الشارع بدل الاستقرار في المأوى، تعرضوا للتعنيف من طرف بعض المربين. واختصر أيوب رده على سؤالنا حول سبب هروبه من المأوى بمدينة فاس بالقول “بسبب الحكرة كنا نتعرض للشتم والتعنيف من طرف المربين المكلفين بمراقبتنا”.
نفس الأمر يورده رضوان، الذي مرّ من أربعة مراكز للإيواء موزعة بين الدار البيضاء وطنجة ومراكش والرباط. يقول “هربت من تعنيف والدي فوقعت في تعنيف المربين، كنا نتعرض للضرب إذا ما أثرنا المشاكل أو لوثنا المكان أو لأسباب أخرى. كنت أتعرض للعقاب بالضرب بشدة، مثل ما كان يفعل والدي، وهذه الندب على كفي دليل على ما حصل لي” مشيرا إلى ندب على باطن أصابع كفه الأيسر.
العقوبات البدنية وإساءة المعاملة في هذه المراكز أكدها التقرير الموضوعاتي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان. وأورد أن أهم الاختلالات التي تعرفها مراكز حماية الطفولة “تعرض الأطفال المودعين للعقوبات البدنية والشتم والإهانة”.
ونهاية العام الماضي، انفجرت فضيحة عقب اتهامات بالاستغلال الجنسي والتعرض للعنف وسوء المعاملة في حق نزلاء المركز الاجتماعي الصداقة بطنجة؛ وذلك بناء على تصريحات خرج بها مجموعة من النزلاء، تكشف عما كان يجري وراء أسوار المؤسسة من انتهاك لطفولتهم؛ وهو ما أعقبه إعفاء مدير المركز من منصبه.
نفس الاختلالات سبق وأثارتها شكاية إحدى المستخدمات بمركز حماية الطفولة، الخاص بالفتيات بمراكش، يوم الجمعة 21 أكتوبر المنصرم. ويتعلق الأمر باتهامات بتعريض إحدى النزيلات للتعنيف باستعمال خرطوم (تيو)، وهي الواقعة التي وثقتها المستخدمة بواسطة فيديو. وأكدت المشتكية على تعرض نزيلات المركز لسوء المعاملة والتعنيف. عقب ذلك تم استدعاء مديرة المركز من طرف الشرطة القضائية للاستماع إليها، وتم فتح تحقيق في الموضوع، وذلك قبل احالة النزيلة على مؤسسة أخرى للرعاية الإجتماعية.
وليست هذه الواقعة الأولى من نوعها حيث أوضحت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في بلاغ تتوفر هوامش بنسخة منه، أنها “راسلت بتاريخ 06 يوليوز 2021، كل الجهات، بما فيها القضائية، حول الاستغلال الجنسي لنزلاء بمركز الفتيان، وغياب التكوين للنزلاء، وعدم احترام بعض المقررات القضائية الصادرة من طرف قضاء الأحداث، المخول له تدبير قضايا الأحداث”. مشيرة إلى أنه “اذا كانت الجهات المسؤولة قد تدخلت بإقالة مدير مركز حماية الطفولة الخاص بالذكور، وتنصيب مديرة مركز الفتيات كمديرة خاصة بالمركزين، فإن مآلات التحقيق حول سوء التسيير والتدبير وهدر المال العام ظلت مجهولة”.
وأكدت الجمعية، في ذات البلاغ، أن هناك ضوابط قانونية ومواثيق دولية خاصة بهذه الفئة الهشة من المجتمع، التي تتطلب الرعاية الاجتماعية وإعادة الإدماج في الوسط الأسري والمدرسي والمجتمعي، وليس السياسة العقابية.
عندما ينتصف الليل بمدينة مراكش تبدأ حياة ثانية على نواصي الشوارع وعلى قارعة الطريق. تشرع مجموعات من الأطفال في الزحف خارج مخابئها بحثا عن سكارى أو سياح أجانب قد يكونون أكثر رأفة بحالهم، فيمدهم أحدهم بدراهم ثمن وجبة عشاء أو سيجارة.
رضوان لم يخف عنا إدمانه وأكد قائلا “أنا الأن صاحٍ ولكن ليلة أمس كنت أبحث عن عبوات اللصاق المخدر (السليسيون). أتعاطى مختلف أنواع المخدرات التي أستطيع الحصول عليها، ابتداء من الشيرا (الحشيش) إلى حبوب الهلوسة وغيرها، باستثناء (المعجون) فقد سبق ومررت بتجربة سيئة معه كادت تقودني إلى فقدان عقلي والجنون، فصرت أتجنبه”.
يبدو الإنهاك جليا على الفتيان الثلاثة. ظل الفتى ذي الثمانية عشرة ربيعا يسعل بشكل حاد طيلة فترة لقائنا به، يقول “حاليا أفكر في الإقلاع عن التدخين فقد أصبحت أواجه مشاكل في التنفس”.
والثلاثة يرون أن الإدمان أمر عادي لمن يعيش في الشارع؛ وبصوت الواثق الذي لا يملك شيئا يخفيه يقول أيوب “أدخن الشيرا، وأتعاطى كل شيء”، أما آدم فيفعل ما يفعله الإثنان ويختصر تصريحه بالقول “بحالي بحالهم”، كتلميذ حديث العهد بالفصل، حيث لم يمض على تركه المنزل، بعد انفصال والديه والتحاقه برفيقيه، في رحلة مجهولة الوجهة والمصير، سوى أسابيع قليلة.
يقضي الأطفال الثلاثة، كما رضوان، يومهم متجولين في شوارع المدينة الحمراء، يسعون لجني قوتهم اليومي، وما أن تقفر الأرصفة في الساعات الأولى من الصباح، حتى يلجأ كل واحد منهم إلى زاوية في إحدى الحدائق أو أمام أحد المحلات، ليبدأ فصل ثان من الحكاية. يتعاطى الأربعة مختلف أنواع المخدرات التي استطاعوا جني ثمنها خلال النهار.
المعطيات حول عدد الأطفال بدون مأوى غير دقيقة ومتغيرة، حيث قدرت مندوبية التخطيط، في التقرير الإخباري لسنة 2017، عدد الأطفال بدون مأوى بناء على إحصاء سنة 2014 بـ 660 طفلا 30.2% منهم إناث، وأغلبهم يقطنون بالمدن. كما سبق أن صرحت جميلة المصلي، الوزيرة السابقة المكلفة بالتضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، بعدم وجود معطيات دقيقة حول مجموع الأشخاص في وضعية الشارع.
وذكرت الوزارة، في بلاغ لها، أنها إلى حدود 28 أبريل من سنة 2020 خلال تطبيق حالة الطوارئ الصحية، قامت بإيواء 6324 شخصا من مختلف الأعمار في وضعية الشارع، بينما تقدر جمعيات حقوقية العدد بأزيد من 10 ألاف طفل.
عمر أربيب، ناشط حقوقي وعضو مكتب الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع المنارة، أكد وجود تضارب في الإحصائيات المتعلقة بالأطفال في وضعية الشارع، وقال في تصريح لمنصة هوامش “لغة الأرقام هي لغة خادعة لغياب الشفافية، وذلك لأن الواقع أحينا يكون أكبر من الرقم، كما يمكن معاينة هذا الأمر من خلال مقارنة الإحصائيات الرسمية بعدد الأطفال المنتشرين بالمحطات الطرقية والحدائق العمومية والساحات”.
وحسب الناشط الحقوقي فإن “تكلفة غياب المعطيات الدقيقة التي تسمح ببناء سياسة عقلانية و اجتماعية تهتم بالطفولة، ستكون باهظة في المستقبل، بعكس تكلفة إنقاذ هؤلاء الأطفال في الوقت الحاضر”. ويعتبر أربيب أن إنقاذ الأطفال في وضعية الشارع سيمكن من تقليص الانحرافات ومعدلات الجريمة، بالإضافة إلى الأمراض التي تصيب الأطفال.
وأضاف نفس المتحدث أنه “لا يمكن تنشئة طفل سوي في ظل تعاطيه المخدرات في عمر الـ 7 سنوات”؛ مشيرا إلى أن نسبة قليلة من هؤلاء الأطفال يتم منحهم فرصة ثانية تغير مستقبلهم، وذلك راجع إلى ضعف الميزانية المخصصة لهذه الفئة، وهشاشة الأسر، وارتفاع نسبة الأمية والهدر المدرسي، مضيفا أن “السياسة العمومية الموجهة للأطفال تعاني من ضعف”.
الهجرة إلى أوروبا، بالنسبة للأطفال الذين يعيشون في وضعية الشارع، تشكل الفردوس الحلم، الذي يمكن أن يكون بديلا وتعويضا عن المعاناة التي يعيشونها، “لا يهم إلى أي بلد أذهب، المهم أن أغادر المغرب” هكذا يلخص رضا الموضوع.
حاول كل من رضا وأيوب عدة مرات الهجرة بطريقة غير نظامية للعبور إلى الضفة الأوروبية، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل. يقول أيوب “حاولت عدة مرات الهجرة رفقة مجموعة من الأطفال، وفي كل مرة كان يتم كشف أمرنا من طرف حراس الميناء”. ومن ذكريات المحاولات المتكررة التي ظلت عالقة بذهن أيوب محاولته الهجرة على ظهر قارب بميناء أكادير، فعثر عليه أحد الحراس ورماه من على متن القارب إلى البحر، يقول “لحسن حظي أجيد السباحة فتمكنت من العوم إلى الضفة والنجاة بحياتي”.
رغم المحاولات الفاشلة والمخاطر التي تحف عمليات الهجرة غير النظامية، أكد الأطفال الثلاثة عزمهم إعادة المحاولة؛ يقول رضا “تمكنا من جمع مبلغ مالي، ومن المقرر أن نشد الرحال خلال الأيام المقبلة صوب مدينة الناظور، أملا في النجاح في العبور هذه المرة”. وبينما يتحدث إلينا يبدو أن المغامرة لا تخيفه مهما تكن نتيجتها، ويلخص ذلك بالقول “بالنسبة إلي هناك ميتة واحدة” في إشارة إلى المخاطر التي تواجهه في هذه الرحلة.
ووفق تقرير سابق للمدعي العام الإسباني، يشكل عدد الأطفال المهاجرين غير المصحوبين بذويهم، الذين استقبلتهم إسبانيا سنة 2020، 60 في المائة من مجموع القاصرين الأجانب البالغ عددهم 9 ألاف و30 قاصرا.
إلى جانب الحالات السابقة التقينا نور الدين، وهو طفل يعيش رفقة شقيقته الصغرى ووالدته، التي انفصلت عن والده منذ سنوات. ويتابع دراسته في السنة الرابعة ابتدائي بمؤسسة عمومية. وهو مجبر على العمل مع شقيقته من أجل المساهمة في توفير القوت اليومي للأسرة؛ يقول في حديثه مع هوامش “بعد انتهاء اليوم الدراسي أتوجه للشارع رفقة والدتي وشقيقتي لبيع البسكويت والحلوى”.
بدورها لا تختلف قصة أمينة بشكل كبير عن قصة نور الدين؛ فالاثنان يتشاركان نفس الشارع ونفس السن والواقع ذاته، تقول أمينة (9 سنوات ونصف) “بعملي أساعد والدتي، التي تشتغل (نقاشة) بساحة جامع الفنا، في توفير مصاريف البيت بما أجنيه من بيع الورود في الشارع خلال المساء، وفي عطلة نهاية الأسبوع الدراسي. أما شقيقي الأكبر فمهمته مراقبتي والحرص على سلامتي خوفا من تعرضي للاعتداء”. ثم تضيف بحماس طفولي بينما ابتسامة بريئة تعلو وجهها “كل يوم ورزقه أجني أحيانا 100 درهم وأمنح المبلغ لوالدتي”. وبسرعة ودون تردد تجيب عن سؤالنا حول حلم مستقبلها، فتقول “أريد أن أصبح طبيبة عندما أكبر”.
تضطر العديد من الأسر بسبب وضعيتها الاقتصادية الصعبة إلى الدفع بأبنائها إلى الشارع، حيث يفقدون عددا من حقوقهم وعلى رأس القائمة الحق في اللعب والتعليم والحماية. وغالبا ما يتعرضون إلى مختلف أنواع العنف والاعتداء من طرف أقرانهم والمارة، فضلا عن مخاطر تعرضهم للاستغلال الجنسي أو لجوئهم إلى تعاطي المخدرات. كل هذه المخاطر تؤثر على فرصهم في اختيار مستقبل أفضل، فالأمر يتعلق بعمل قسري يجبر عليه الأطفال، وتصنفه هيئة الأمم المتحدة ضمن جريمة الاتجار في البشر.
خديجة (37 سنة) تنحدر من ضواحي مراكش، وهي أم لأربعة أطفال، أكبرهم تتابع دراستها في المستوى السادس إبتدائي، وترافقها بشكل يومي لبيع المناديل، باستثناء الأيام التي تصادف حملات أمنية أو تساقطات مطرية، فتضطران إلى العودة إلى المنزل، في انتظار اليوم التالي إذا هدأت الأجواء.
لاترى خديجة مشكلة في خروج ابنتها ذات الإثني عشر ربيعا لبيع المناديل الورقية على الرصيف، بعد انتهاء الفصل الدراسي. تقول في تصريحها لهوامش “توقف زوجي عن العمل مع بداية الجائحة، حاليا لا يعمل ولا نعلم أين ذهب، ابنتي تساعدني وهي الآن تبيع المناديل على الجهة الأخرى من الشارع” مشيرة إلى جهة اليمين.
من جهته أوضح عمر أربيب، أنه علاوة على ما سبق “يوجد أطفال يضطرون للعمل في وقت الفراغ بين الحصص الدراسية، بالإضافة إلى لجوء البعض إلى استغلال هؤلاء الأطفال في التسول والاتجار بالبشر من خلال استغلال القاصرين جنسيا”.
وأضاف أربيب أن “هؤلاء الأطفال هم ضحايا الدولة وضحايا المجتمع، حيث من الممكن لإنقاذهم من خلال اعتماد برامج دعم للأسر الهشة، تسمح بتغيير واقع أطفالها وإعادتهم إلى موقعهم الحقيقي وهو المدرسة؛ وهذه مسؤولية الدولة”؛ مؤكدا أن بعض الأسر ترى في أطفالها مورد رزق سواء من خلال تشغيلهم، أو استغلالهم في التسول مباشرة، أو عن طريق “تأجيرهم”، وهي جريمة يعاقب عليها القانون.
وفق مذكرة إخبارية لمندوبية التخطيط بمناسبة اليوم العالمي لمحاربة تشغيل الأطفال لسنة 2021، فإن عدد الأسر المعنية بالظاهرة قد بلغ 109 آلاف أسرة، منها 82 ألف أسرة بالوسط القروي و27 ألفا بالمدن وحوالي 9.5 % منها تسيرها النساء.
كما أكد تقرير مندوبية التخطيط بشأن تطور الفوارق الاجتماعية في سياق آثار كوفيد 19 وارتفاع الأسعار، بأن معدل الفقر المطلق على المستوى الوطني، قد ارتفع من 1.7٪ سنة 2019 إلى 3٪ سنة 2021، كما عرفت الهشاشة ارتفاعا ملحوظا حيث انتقلت خلال نفس الفترة من 7.3٪ إلى 10٪، وهو ما يعني ارتفاع عدد الأطفال المعرضين للحرمان.
وحذر تقرير مكافحة عمل الأطفال لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، من ارتفاع عدد الأطفال العاملين في العالم إلى 160 مليون طفلا، بزيادة تسعة ملايين طفل إضافي في العالم، معرضين لخطر الاضطرار إلى العمل بحلول نهاية عام 2022 بسبب الجائحة، مشيرا إلى أن هذا الرقم قد يرتفع إلى 46 مليوناً، إذا لم تتوفر لهم إمكانية الحصول على الحماية الاجتماعية الضرورية.
ويضيف التقرير أن الأطفال العاملين معرضون لخطر الأضرار الجسدية والنفسية، كما أن ذلك يهدد تعليمهم، ويُقيد حقوقهم، ويحد من فرصهم في المستقبل، ويؤدي إلى حلقات مفرغة من الفقر وعمل الأطفال بين الأجيال.
ومن التوصيات التي جاء بها تقرير اليونسيف لمواجهة انتهاك حقوق الأطفال، زيادة الإنفاق على التعليم الجيد، وإعادة جميع الأطفال إلى المدرسة، بمن فيهم من كانوا خارج المدرسة قبل الجائحة، وتعزيز العمل اللائق للبالغين، للمساعدة في تحسين دخل الأسر حتى لا تضطر إلى تشغيل أطفالها، وكذا الاستثمار في أنظمة حماية الطفل وسبل العيش.
