الرئيسية

إملشيل.. ملتقى قبائل الأطلس، بين الثقافة والتجارة والسياسة

أنت تحضر الآن أحد طقوس موسم إملشيل، يجلس مقابل العرسان، عائلاتهم والزوار، وفي الوسط وضعت طاولة يجلس إليها عدلان وقاض، ورغم مراسيم توثيق الزواج والفرح والزغاريد فهو ليس "موسم الخطوبة"، هنا يرفض الناس هذا الاسم ويفضلون تسمية "موسم سيدي حماد أوالمغني"، من يعترضون على الاسم الأول يعتبرون أن التسويق الفلكوري من قبل السلطة والإعلام مجحف في حق أعراف وتقاليد لها بعد تاريخي واجتماعي.

محمد تغروت

على الجانب الأيمن داخل خيمة كبيرة، يجلس شبانٌ وشابات في مقتبل العمر على كراسي خصصت لهم. يرتدي الشبان جلبابا أبيض، بينما تلتحف الفتيات لباس “أحندير” التقليدي المزين بالـ”موزون” الأثير لدى الأمازيغ. بالإضافة إلى إكسسوارات أمازيغية عريقة، لا تتجمل المرأة الحْديدّيوية بالماكياج والذهب، بل تقتصر على الحلي التقليدية، أما الرجال فزينتهم البياض. 

أنت تحضر الآن أحد طقوس موسم إملشيل. يجلس مقابل العرسان عائلاتهم والزوار، وفي الوسط وضعت طاولة يجلس إليها عدلان وقاض. رغم مراسيم توثيق الزواج والفرح والزغاريد، لا يتعلق الأمر بـ”موسم خطوبة”. هنا يرفض الناس هذا الاسم ويفضلون تسمية “موسم سيدي حماد أوالمغني”، يعتبر معارضواالاسم الأول أن “التسويق الفلكوري” الذي تقف وراءه السلطة ويسوق له والإعلام ”مجحف في حق أعراف وتقاليد لها بعدها التاريخي والاجتماعي”.

الطريق إلى “الموسم”، قطعة من الجحيم

للوصول إلى دائرة إملشيل، وبالضبط إلى دوار أيت عمر بجماعة بوزمو، التي تحتضن فعاليات الموسم، كما تحتضن ضريح “سيدي احماد أوالمغني”، يتعين عليك قطع مسافات طويلة. إن كنت قادما من “مركز” المغرب، المتمثل في مثلث الرباط، الدار البيضاء، طنجة، هناك مساران، إما عن طريق خنيفرة، مرورا بالهري، ثم سيدي يحيى أوسعد وأموكر، أو عن طريق ميدلت، الريش، مرورا بأيت تدارت ومركز أوتربات. وإن اخترت المرور بهذه الأخيرة، مثلما فعلنا، ستعرف لماذا يقال أنًّ “السفر قطعة من الجحيم”.

مسافة الطريق من الريش إلى إملشيل، كما تشير إلى ذلك علامات التشوير تبلغ 112 كلم، الجزء الأكبر منها، قد يصلح لعبور الدواب فقط وليس السيارات، إذ أن هذه الأخيرة، في ما يناهز ثلثي المسافة لا تنطفئ – تقريبا – أضواؤها الخلفية. السائق مضطر إلى الضغط على الفرامل باستمرار، سواء للتوقف أو التخفيف من السرعة، فبين منعرج وآخر منعرج أكثر حدة، وبين حفرة وأخرى حفرة أكبر منها.  إضافة إلى المرتفعات الحادة، الطريق في معظمها أقرب إلى شريط من متر ونصف المتر وأحيانا أقل. على اليمين جبال شاهقة وعلى اليسار واد جفت مياهه. وراء الجبال الممتدة تختفي قصص جحيم كثيرة. رداءة “الطريق” تجعل المرء يتساءل عما إذا كان المسؤولون يمرون فعلا من هنا.

“سُوقْ عامْ” فضاء تجاري موسمي 

بدخولك القرية تستقبلك أصوات الباعة وهم ينادون الزوار ويشجعونهم على اقتناء معروضاتهم، على شاكلة الأسواق الأسبوعية التي تعرفها العديد من القرى المغربية. الفرق هنا أنك أمام “سوق عامْ” (سنة)، وهو سوق ضخم ينظم بشكل سنوي، بمنطقة قبائل أيت حديدو بأعالي جبال الأطلس الكبير الشرقي بدائرة إملشيل. في العاشر من شتنبر “الأمازيغي/الفلاحي” كل سنة، يقام السوق تزامنا مع “المُوسْم”، بدوار أيت عمر جماعة بوزمو حيث يتواجد ضريح سيدي حماد أوالمغني، غير أنه عرف تأخيراً هذه السنة بسبب “تأخر موسم جني المحصول الزراعي” حسب الشاعر والباحث “باسو أوجبور” عضو جمعية أخيام، المساهِمة في التنظيم.

 على جنبات الطريق تنتصب “مطاعم” تقليدية على شكل خيام.بعضها يضم كراسي وطاولات، وأخرى يفترش روادها زرابي على الأرض، تعرض ما يسدّ جوع الزوار. وكلما رفعت رأسك تجاه المنازل المبنية بالتراب تجد يافطة تعرض بيوتا للكراء، إذ تعرف البلدة قلة المآوي، مقابل كثرة الوافدين، وهو ما جعل العديد من الزوار يتنقلون إلى مناطق أبعد، قصد المبيت، كتنغير أو أيت هاني على سبيل المثال.

جدل حول تدخل السلطة في التنظيم

خلال البدايات المعروفة لتنظيم الموسم، كانت تشرف عليه الجماعة السلالية  لقبيلة أيت احديدو بالإضافة إلى القيمين على ضريح سيدي حماد أوالمغني. حافظ الموسم على تسميته الأصلية،”أكدود [موسم]سيدي حماد أوالمغني”، غير أن السلطات الإقليمية بالراشيدية تدخلت لتسميه “موسم الخطوبة”، وتم تسويقه إعلاميا بهذه التسمية على نطاق واسع. نظرا لما رافق ذلك من ما يصفه البعض “تشويها” للقيم التي يقام عليها الموسم، ومن تنمر تعرض له أبناء قبيلة أيت حديدو، خصوصا منهم من تضطرهم ظروف الحياة من دراسة وعمل إلى التنقل إلى مناطق أخرى، بترديد القول أن الموسم مناسبة لبيع النساء، عرف الموسم احتجاجات على هذه التسمية.

 وقد ظهرت موجة من السخط من قبل شباب المنطقة، الذين دعوا إلى مقاطعة الموسم، حتى أن العديد من أهل القبيلة كانوا يرفضون حضور بناتهم وأبنائهم، وهو ما دفع السلطات إلى اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة قصد الحفاظ على هذا التقليد. يقول الباحث باسو أوجبور أن السلطات في بعض المواسم اضطرت إلى جلب عرسان من قبائل أخرى مجاورة، وكذا بعض محدودي الدخل بالقبيلة، ولجأت إلى إغراءات مادية هزيلة قصد تحفيزهم على المشاركة.

لحسن أيت الفقيه الباحث في علم الاجتماع والمهتم بالمنطقة، اعتبر في مقال نشر في جريدة ملفات تادلة، أن “نزول السلطة الإقليمية بالراشيدية للميدان لتنظيم الموسم ضربٌ لقيم الحب والوئام التي يقوم عليها الزواج عامة بقبيلة أيت حديدو”، مضيفا أنه “لا معنى للحب البارد (تقرفيت) بالأمازيغية، أمام قبعات الدرك ورجال القوات المساعدة والأزياء الداكنة قواد السلطة، وكثير منهم من سجل اسمه في لائحة ممارسي العنف ضد المرأة والتحرش الجنسي”.

ليس موسما للخطوبة !!

شكّلت سنة 2000  محطة فارقة في تاريخ الموسم. فبتأجج الاحتجاجات واستنكار إشاعة كونه مناسبة لـ”بيع الفتيات”، يقول الباحث باسو أوجبور أن هذا الوضع دفع جمعية أخيام المحلية، للتدخل وأخذ المبادرة لتنظيم المهرجان، وتسميته بـ”موسم إملشيل”، معتبرا أن ذلك شكل تقدما في مسار التنظيم، وفق ما يرضي جميع الأطراف لسنوات متتالية، قبل أن يدخل مركز طارق ابن زياد (الذي كان يرأسه حسن أوريد) على الخط سنة 2004 لتنظيم الموسم تحت عنوان “مهرجان موسيقى الأعالي”، إثر ما عرف آنذاك بانتفاضة الكهرباء بإملشيل ضد الانقطاعات المتكررة للكهرباء في المناطق المزودة بها وغيابها في باقي المناطق.

وبعد التقسيم الإداري الجديد وإلحاق إملشيل بنفوذ عمالة ميدلت عوض الراشيدية، عاد اسم “موسم الخطوبة” ليتردد من جديد وتعود معه بعض الحزازات والاحتقان الشبابي.

باسو أوجبور في تصريحه لـ “هوامش” أكد أنه لا يرى “ضرورة لمواجهة الغضب الشعبي والشبابي الرافض لتسمية موسم الخطوبة بالإصرار على إفراز اسم مستفز لشعورهم، خصوصا وأن أبناء المنطقة في مناطق ومدن أخرى يتعرضون للتنمر بسبب ذلك”. واستحضر الباحث في حديثه مفارقة كون الولي سيدي حماد المغني الذي ارتبط به الموسم، ظل أعزب ولم يتزوج، في حين تم ربط الموسم بالخطوبة.

هنو أماروش، التي عرفت بصرختها الشهيرة “أَدّودْ أَوَا أَدّودْ، أَمحمد السادس”، خلال احتجاجات سابقة بجماعة تيلمي، أكدت في تصريح لـ”هوامش” أن الموسم ليس مناسبة للخطوبة والزواج، بقدر ما هو مناسبة لتوثيق زيجات تم الاتفاق بين أطرافها سابقا، وهم يستغلون فرصة تواجد القاضي والعدول قصد توثيقها بشكل رسمي، تفاديا للتنقل إلى مراكز تتوفر فيها الإدارات وما يصاحب ذلك من مصاريف ومجهود إضافي، مضيفة “نساء أيت حديدو حرّات، لا تُبعن”.

وعاد باسو ليؤكد أن الموسم “يعرف عند البعض بموسم ‘سيدي حماد أوالمغني’، وهو الأصل، وعند آخرين بـ ‘موسم الخطوبة’، وعند طرف ثالث بـ’مهرجان موسيقى الأعالي’، غير أن ما يهمنا أن يعرف المتتبع والزائر للموسم حقيقته وجوهره ولْيُسَمِّهِ ما شاء”.

موسم ديني ذو أبعاد اجتماعية واقتصادية 

“أكدود ن سيدي احماد أوالمغني” أو موسم سيدي حماد أوالمغني، لا وجود لمعطيات دقيقة عن تاريخ بدايته، يقول الباحث والشاعر ابن المنطقة، باسو أوجبور “لحد الساعة لم نجد من يستطيع أن يحدد لنا تاريخ تأسيس الموسم”، مضيفا أنه تم التواصل مع باحثين من المغرب وخارجه متخصصين في الأنتربولوجيا والسوسيولوجيا، بما في ذلك الباحث النمساوي والأستاذ الجامعي في جامعة فيينا Wolfgang Kraus، الذي قام بأبحاث حول قبيلة أيت حديدو لما يزيد عن 25 سنة، غير أنه هو بدوره لم يتوصل إلى تحديد تاريخ بداية الموسم.

غير أن الثابت، بناء على ذاكرة شيوخ القبيلة، والرواية الشفوية المتداولة، أن قبيلة أيت حديدو هي التي بادرت إلى تنظيمه واتخذته مناسبة لتجديد أواصر التواصل مع القبائل المجاورة، خصوصا تلك التي لديها معها تحالف في إطار ما يسمى بفيدرالية “أيت ييفلمام”، ويرتبط ذلك أساسا بميثاق “أزرف ن تظا” أي “ميثاق السلم/الهدنة” الذي يحكمه العرف بين القبائل التي كانت متصارعة آنذاك، إذ كان الموسم يشكل مناسبة لعقد اجتماعات لممثلي القبائل والجماعات السلالية للبث في القضايا والصراعات بين بعض القبائل، ويتم البت فيها بإصدار أحكام موثقة، تارة بغرامة لفائدة الجهة المظلومة تدفعها الجهة الظالمة، وغالبا ما تكون جزافية تحت مسمى “أزرف ن إيزماز “، وتارة أخرى بالتراضي مع التزام الجهة المخطئة بعدم التكرار تحت مسمى عرفي “أزرف ن أسنضو “.

يقام هذا الموسم على ضريح سيدي أحمد أولمغني، والذي كان حسب رواية شفوية متواترة لشيوخ كبار السن في المنطقة، يتدخل في تسوية النزاعات بين القبائل، ملتزما الحياد، وملتجأ إلى التصوف كاختيار، على درب والده “سيدي المغني”. 

وشكل الموسم تاريخيا ملتقى لكل القبائل المتواجدة في الأطلس الكبير والأطلس المتوسط والجنوب الشرقي للبلاد، أيت حديدو، أيت مرغاد، أيت يحيى، أيت شخمان وأيت عطا وما إلى ذلك من القبائل.

يقول باسو أوجبور إن الموسم له أدوار دينية واقتصادية وتجارية وثقافية، وأنه موسم شمولي لا يمكن اختزاله في الخطوبة أو الزواج، لأنه لم يكن موسما للزواج فقط، غير أنه عُرِف بطابع الزواج لأن الناس وجدوا أن ثقافة أيت حديدو فيما يتعلق بالزواج لا تنبني على الطمع ولا على الإغراءات المادية.

تقسيم للمهام بين الجنسين يحكم تعاقد الزواج بالمنطقة

 

“الزواج في منطقة قبائل أيت حديدو تتحكم فيه القيم والمبادئ والمودة والوفاء أكثر مما تحكمه الماديات”، يقول باسو أوجبور، مؤكدا أن “العائلات بالمنطقة لا تشترط مهورا مرتفعة، معلين قيمة العرسان، حتى لا يكونوا بضاعة تباع وتشترى”. 

وأضاف أوجبور “وجدنا أجدادنا يخطبون بأشياء رمزية بسيطة، ليست لها قيمة مادية كبيرة، ولكن لها قيمة رمزية مهمة، مثل “السكر” الذي يرمز إلى الحلاوة والبياض والصفاء، و”التمر” الذي يرمز إلى الصبر والتحمل والحلاوة والمحبة، و”الحناء” الذي يرمز إلى الحنان، و”الصابون” الذي يرمز إلى الطهارة، وهذه هي المكونات الرئيسية لحقيبة الخطوبة”.

 يتقاسم الجنسان في مناطق أيت حديدو المهام اليومية والحياتية، كما يحكي باسو ابن المنطقة “بالنسبة لأتعاب المطبخ، فالزوجان يتقاسمانها، الخبز والكسكس والحريرة  والألبان والأجبان اختصاص نسائي، بينما الطاجين وتحضير وطبخ اللحوم عموما وتحضير الشاي والسَّلَطات فهو من اختصاص الرجال”. 

ولا يقتصر الأمر على المطبخ، نفس الشيء ينطبق أيضا على تربية المواشي، فالرجل والمرأة يقتسمان مهام العناية بالمواشي والحيوانات،  حيث يهتم الرجال بالأغنام والدواب، بينما تتكلف النساء بالأبقار والدواجن، ويشمل الأمر إطعامها والعناية بها وبيع منتوجاتها، لذلك ستجد مستغربا أن يتولى رجل بيع الدواجن “البلدية” في رحبة الدجاج على سبيل المثال.

نفس المبدأ ينطبق على العمل في الحقل، حسب محدثنا باسو، فالرجل يتكلف بسقي المزروعات والمرأة تتكلف بتخليص الحقل من الطفيليات والنباتات الضارة، وبينما يتولى الرجل إيصال الأسمدة العضوية إلى الحقل، تتكلف المرأة بعملية تسميده، وبعد ذلك يحرث الرجل، فتقوم المرأة بتجميع جذور النباتات الضارّة والطفيليات، وبعد أن يجهز المحصول، يقوم الرجل بتجهيز “النادر” وتقوم المرأة بحصد المحصول لينقله الرجل إلى النادر ويدرسه.  

ولعل أبرز مثال على تقاسم الأعباء، أن الجنسين في قبيلة أيت احديدو يتقاسمان مهمة غسل الملابس، يقول الباحث باسو أوجبور إنه “على جنبات النهر هناك مغسل خاص بالرجال وآخر خاص بالنساء”، مضيفا أنه أثناء غسل الرجال لملابسهم وملابس أبنائهم من الذكور يرددون أغاني خاصة بهذه المهمة، في المقابل تغسل النساء ملابسهن وملابس بناتهن، متأسفا أن هذه الثقافة رغم أنها كانت مترسخة لدى الأجيال السابقة، بدأت تنقرض نتيجة زحف العولمة واستعارة ثقافة مناطق أخرى.

تبدأ مراسيم الموسم بزيارة ضريح سيدي حماد أوالمغني، وتقديم تبرعات للقائمين على تدبير شؤونه، وبعد وصول عامل الإقليم، يبدأ القاضي والعدلان باستقبال الأزواج وتوثيق الزواج، ليوزع “أبادير” (وهو نوع من الخبز مرتبط بمناسبات الزواج بأيت احديدو) على الضيوف، بالإضافة إلى التمر، ويختم الحفل برقصة أحيدوس التي تشتهر بها المنطقة وتزاوج بين الحركة والمتعة. 

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram