الرئيسية

وداعا “ماما عائشة”.. الملاك الحارس للأمهات العازبات والأطفال

مساء يوم ممطر، تنزع الأم ثديها بقوة من فم الرضيع الذي ما زال متشبثا به، قطرات الحليب تطايرت على وجهه فأطلق صرخة حادة. تجلس الأم البائسة باستسلام أمام المساعدة الاجتماعية، بمكتب وزارة الصحة، إنها تتخلى عنه لأنه أتى من علاقة خارج إطار الزواج، لذلك طردت العائلة الأم ورضيعها ورمت بهما إلى الشارع. على مضض تبصم الأم على وثيقة التخلي عن ابنها وإيداعه بدار الأطفال المتخلى عنهم.

مريم أبروش

هذا مشهد حقيقي جرى في سنوات الثمانينات، وهو الذي شكل نقطة انعطاف في مسار عائشة الشنا، مسار مناضلة أقسمت أن تكرس حياتها وعملها لخدمة هذه القضية كي لا تضطر الأمهات إلى التخلي عن أطفالهن مرغمات.

رفعت الأوساط الإنسانية والحقوقية بالمغرب، الأحد 25 شتنبر 2022، راية الحداد على روح سيدة كرست حياتها للدفاع عن حقوق النساء وحماية الأطفال المتخلى عنهم، وحاولت جاهدة، بما أتيح لها من إمكانيات، الترافع لصالح فئة مجتمعية يلتصق الحديث عنها بالعار والفضيحة. في سن الواحد والثمانين ترحل أيقونة العمل الحقوقي النسائي بالمغرب بعد معاناة مع المرض، رحيل مفجع جاء بعدما رسمت مسار حياة استثنائي، كافحت فيه من أجل القضايا التي تبنتها حتى آخر رمق من حياتها، إلى أن أسلمت الروح لبارئها.

عائشة الشنا، أو “ماما عيشة” كما يحب الكثيرون مناداتها، امرأة اقترن اسمها بالدفاع بكل شراسة واستماتة عن حقوق فئة مجتمعية طالها التهميش، وناضلت من أجل انتزاع حقها في العيش الكريم. سيدة أسقطت الستار عن واقع مغرب تتبرأ فيه الأسرة من الفتاة المغرر بها والمغتصبة وتحمي المغتصب وترمي بالطفل إلى الشارع. وبالرغم من التهديدات التي طالتها والتحديات التي واجهتها، إلا أنها أبت إلا أن تجعل المرأة والطفل قضية حياتها، فكتمت بصدرها هموم وقصص أمهات كثيرات، وعملت على توعية المجتمع وتحسيسه بخطورة هذه التخلي عن هذه الفئة. 

خطوات المسار الأولى 

سنة 1941، بمدينة البيضاء، ستفتح عائشة عينيها للمرة الأولى، لتجد نفسها في بلد ما زال يرزح تحت وطأة الاستعمار الفرنسي. من البيضاء، انتقلت أسرتها للعيش بمدينة مراكش، إلا أن القدر لم يمنحها الكثير من الوقت للعيش في كنف والدها الذي توفي بسبب مرض السل وهي لم تتجاوز بعد الثلاث سنوات. رغم وفاته المبكرة ظل الأب صمام أمان في حياتها، وبالرغم من صغر سنها حين وفاته، إلا أن ذاكرتها ما تزال تحتفظ بصورتهما معا. تحكي عائشة في لقاءات صحفية “ما تزال صورة والدي بين عيني وهو يحملني على كتفه ونتجول سويا بين قصبات مدينة مراكش، هي الصورة الوحيدة التي لا أدري كيف ما تزال ذاكرتي تحتفظ بكل تفاصيلها”.

ترك الموت بصمته في حياة عائشة منذ سنوات الصبا، إذ أنه وبعد رحيل أبيها بأقل من سنة، توفيت أختها الصغرى بنفس المرض، لقد عاشت الشنا اليتم وتجرعت مرارته، إلا أنها استشعرت مدى تضامن العائلة والجيران معها. 

وجدت الأم نفسها أرملة في بداية العشرين من عمرها، واستشعرت عائشة حينها لأول مرة مرارة إحساس الأم الفاقدة للسند ومدى ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها، وبحكم الضغط المجتمعي تزوجت الأم.

ملأ زوج الأم مكان الأب، وتشهد له عائشة في جميع تصريحاتها بمدى معاملته الطيبة وإحسانه لها. إلا أن الظروف السياسية والاجتماعية للمغرب آنذاك اضطرته إلى إيقاف مسار عائشة الدراسي، وإرغامها على الجلوس في البيت شأنها شأن معظم الفتيات في تلك الحقبة. قرار لم تستسغه الأم البتة، وأبت إلا أن تكافح من أجل حق ابنتها في التعليم، لذا أرسلتها إلى مدينة البيضاء لتدرس في ضيافة خالتها. في تصريح تلفزيوني تحكي عائشة قائلة “لقد كانت أمي امرأة جريئة، فما أزال أستغرب كيف تحدّت محيطها وأصرت على أن أكمل دراستي بالرغم من الحالة غير المستقرة التي يمر بها البلد آنذاك”، ولم يمر وقت طويل حتى لحقت الأم، بعد طلاقها، بابنتها ليجتمع شملهما من جديد. 

بسبب ظروف خاصة، اضطرت عائشة إلى الاستقلال رفقة أمها في بيت خاص بهما، لتخطو خطواتها الأولى في عالم الكبار، وتضطر إلى البحث عن عمل تسد به نفقات كراء البيت ومصاريف المعيشة. وجدت الشابة الصغيرة عملا في أحد المستشفيات وعملت كسكرتيرة برامج أبحاث طبية لمرضى الجذام والسل، ثُم حثّها زُملاؤها في المستشفى على الالتحاق بمدرسة التمريض والحصول على شهادة في المجال، وبالفعل حصلت عائشة على منحة لاستكمال الدراسة، وحازت دبلوم التمريض، لتبدأ العمل في وحدة التعليم في وزارة الصحة، ثُم انتقلت لتكون منسقة برامج التوعية الصحية.

“أقسمت يمينا أن أحارب..”

كانت عائشة في سن السادسة عشرة من عمرها حين انكشف غطاء الواقع المرير أمامها، واطلعت على واقع النساء المغتصبات في المغرب والبؤس الذي يعيشه الأطفال المتخلى عنهم. لقد رأت عائشة ما وصفته ب “العجب”، واستمعت إلى قصص تدمي الفؤاد، فانخرطت في عصبة حماية الطفل والتربية الصحية، ليبدأ فصل جديد في حياة المناضلة. بدأت بالاحتكاك المباشر بنساء يتوسلن المساعدة، واستقبلت أطفالا تم تهميشهم من قبل المجتمع، ثم “تعلّمت أن أستمع إلى مجتمعي، ويستمع مجتمعي إلى صوتي” تقول عائشة.

صرخة طفل كانت الفيصل في حياة عائشة، إذ أنها عاشت موقفا لم يغادر ذاكرتها قط، وكان السبب وراء جعلها تهب حياتها للعمل الجمعوي. ذات مساءٍ ممطر من شتاء سنة 1981، عادت عائشة إلى مكتب الوزارة بعد عطلة الولادة، لتصادف هناك أمّا توحي هيأتها بأنها بالكاد وصلت من البادية. أتت الأم الشابة مضطرة، بعدما طردتها أسرتها ورمت بها إلى الشارع، قصد توقيع وثيقة تفيد بتخليها عن ابنها الذي جاء إلى الدنيا خارج إطار الزواج. 

ما أن وقّعت الأم المغلوب على أمرها حتى انتزعت المساعدة الاجتماعية الطفل وهو ما يزال يتوسل قطرات حليب من ثديها. صرخة الطفل ظلت تتكرر في أذن عائشة الشنا التي عادت إلى بيتها ممزقة الفؤاد، فحضنت ابنها الرضيع بقوة و”أقسمت يمينا أن أحارب هذه الظاهرة”، تقول الشنا في للقاء صحافي، كي لا تضطر أي أم إلى التخلي عن طفلها رغما عنها. 

بعد أربع سنوات، كانت البداية الفعلية لعائشة الشنا كناشطة اجتماعية ومهتمة بحقوق المرأة وخاصةً ملف “الأمهات العازبات”، حيث أسست “جمعية التضامن النسوي” بمدينة الدار البيضاء، وهي جمعية تعنى برعاية الأمهات في وضعية صعبة، من ضحايا الاغتصاب والتغرير، وتسعى إلى احتضان أطفالهن وحمايتهم من التشرد، جمعية أثارت ثائرة المجتمع، فبينما أيدها البعض حاربها الكثيرون. 

صوت “الميزيريا”.. الكاتبة المزعجة

آمنت عائشة بقوة صوتها وتأثيره، وحملت على عاتقها مهمة إيصال كل تلك القصص المأساوية إلى المجتمع. ففي سنة 1996، ستدخل الشنا عالم الكتابة، لتسرد بمرارة قصصا عايشتها على مدار مسيرتها النضالية، جمعتها في كتاب تحت عنوان البؤس «Miséria ».

في كتابها تحكي فيه الشنا قصصا مؤثرة لعشرات الضحايا، من خادمات صغيرات ومراهقات غرر بهن وشابات تعرضن للاغتصاب وأطفال رمي بهم في الشارع دونما أي شفقة. حكايات تتكرر كل يوم وسط المجتمع المغربي، فقد أرادت عائشة تعرية الواقع قصد إزعاج السلطات المعنية لاتخاذ إجراءات جذرية كي تتوقف هذه المأساة.

بكت عائشة الشنا قصص المقهورات، وحاولت، بكل صدق وأمانة، إيصال معاناة أطفال لفظتهم الحياة وتبرأ منهم المجتمع. لقد حكت قصص أطفال وأمهات وأسر التصق بهم العار، ووجدوا أنفسهم بين مطرقة المجتمع وسندان القانون. لم تدّع عائشة الشنا قطّ أنها كاتبة محترفة، ومع ذلك أُشيد بكتابها بين الكتاب والفاعلين الحقوقيين بالمغرب.

حتى أن الراحلة الكبيرة فاطمة المرنيسي لم تُخفِ إعجابها به، بل إن المرنيسي لم تتردّد في الاعتراف قائلة’’أخاف عائشة الشنا لأنني وأنا أقرأ كتابها انتبهت إلى أن انشغالي الأهم وأنا أكتب هو كيف أغوي قارئي وأنال إعجابه، فيما عائشة الشنا تكتب لتزعج وتثير الأعصاب ولتزجّ بنا وسط مغرب الحقائق المريعة التي لا تُحتَمل‘‘.

اتهامات خطيرة وتهديدات بالقتل 

فتح العمل في جمعية “التضامن النسوي” باب الجحيم في وجه الشنا، إذ تعرضت لوابل من التهديدات وصلت إلى درجة التهديد المباشر بالقتل، فقد اتهمت ذات يوم خلال خطبة الجمعة في أحد المساجد بكونها تشجع على الفساد والانحلال الأخلاقي، وادعى الكثيرون بأن الجمعية ستعد وكرا لبائعات الهوى وفتيات الليل، بذريعة أنه أصبح لديهن مكان يلجأن إليه دون محاسبة، بل ويقدم لهن الدعم النفسي والمادي . 

في نفس السياق، أكدت عائشة في لقاءاتها أنها تعرضت للعديد من التهديدات المباشرة، وذكرت في لقاء تلفزيوني حادثة لفتاة تعرضت للاغتصاب من طرف زوج أمها، وقالت “سعيت للدفاع عن حق الطفلة والزج بالمغتصب في السجن، ليقسم المغتصب يمينا بأنه حالما يخرج من السجن سيمزق أحشائي بسكين”.

تهديدات كادت أن تجعل المغرب يفقد أيقونة العمل الإنساني، وكادت الشنا أن تتراجع في مراحل عدة وبشكل نهائي خشية تعرضها للأذى، لكن حب المغاربة لها وهَمُّ القضية التي أقسمت على الدفاع عنها جعلها كل مرة تعود لحلبة الفعل بشراسة واستماتة قويتين.

بين رفض الأب لأبوته وتمسك الأم بالأمومة، يبدأ مشوار طويل من المعاناة والعذاب اليوميين للأم وابنها، معطيات تأخذها عائشة بعين الاعتبار حين تحاول جاهدة مساعدة هذه الفئة من المجتمع. فلم تدافع الشنا يوما على الفساد الأخلاقي ولم تشجعه كما يظن الكثيرون، بل كانت تحاول جاهدة أن تساعد فئة عريضة من النساء وجدن أنفسهن ضحية للاغتصاب مما رمى بهن في متاهة الحمل خارج إطار الزواج، وفي هذا الصدد صرحت عائشة في لقاء تلفزي قائلة “بعضهم يتهمني بأني أشجع على الدعارة، أنا لا أشجع على الفساد، أود أن أخبرهم بالأرقام بأنه %98 من الأمهات العازبات لسن بعاهرات، وحتى الـ %2 لا ألومهن، لأن هناك مشكلا اجتماعيا حقيقيا وراء هذا الوضع”.

 لم تجيش الشنا النساء يوما في خطاباتها، ولم تتبنَّ خطاب التمييز بين المرأة والرجل، بل كان العكس تماما. كانت عائشة دوما تقر بضرورة إشراك الرجل لإيجاد الحل لهذا المشكل المجتمعي، باعتباره شريكا أساسيا لا يستقيم المجتمع إلا بحضوره. وتقول عائشة بهذا الشأن أنا ليست نسوية بل أنا إنسانية “Je suis pas féministe, je suis humaniste “، وظلت تسعى في كل فرصة إلى إيصال رسالة مفادها أن المرأة والطفل ما هم إلا ضحايا لمشكل مجتمعي يجب أن تتشارك كل فئات المجتمع ومؤسسات الدولة لإيجاد حل له. 

وترى الشنا أن ما يفاقم الإشكالات المرتبطة بالعلاقات خارج إطار الزواج، والتي قد تؤدي إلى الحمل، هو النبذ والإقصاء، معتبرة أن الحل يكمن في التوعية وفي تلقين الأطفال تربية جنسية صحيحة داخل البيوت وفي المدارس. وردا على الأصوات التي تنتقد عملها وتتهمها بنشر الفساد، تقول الشنا، إن كل ما تقوم به هو محاولة إنقاذ أم وابنها من الشارع، وعدم السماح بالتخلي عنه أمام باب مسجد أو بجانب حاوية للنفايات دون هوية.

جوائز وتتويج في الداخل والخارج

تعدى صدى عمل عائشة الشنا حدود المغرب، وما أن يذكر اسمها إلا ويقابل بالاعتراف والتقدير. حصلت عائشة الشنا على العديد من الجوائز وشهادات التقدير إثر دورها المتميز في مجال الخدمة المجتمعية، ففي عام 1995 حصلت على جائزة حقوق الإنسان في باريس، وفي عام 2000 وحتى قبل الاعتراف بجمعيتها كمؤسسة ذات النفع العام، منحها الملك محمد السادس وسام الشرف، وحصلت على جائزة إليزابيث نوركال من نادي النساء العالمي بفرانكفورت عام 2005، كما حصلت على جائزة أوبيس للأعمال الإنسانية الأكثر تميزاً والبالغة قيمتها مليون دولار عام 2009، بمينيابوليس (الولايات المتحدة). ونالت عن مجمل أعمالها وسام جوقة الشرف من درجة فارس، من قبل الجمهورية الفرنسية 2013.

لم يكن مسار عائشة الشنا بالمسار السهل، بل كان ومنذ أن أقسمت بأن تهب نفسها للعمل الجمعوي متخما بالأحداث ومليئا بالعراقيل والتحديات. بجرأة منقطعة النظير، سلطت الشنا الضوء على طابو من طابوهات المجتمع المغربي، في وقت تواصل فيه النساء السكوت عن قضايا الاغتصاب ويرمين بأطفالهن إلى الشارع مخافة العار والفضيحة. لم تدَّعِ عائشة الشنا يوما بأنها ستحل المشكلة بشكل جذري، إذ أن هدفها تلخص في إنقاذ الأم وطفلها من ويلات الشارع، داعية كل الفاعلين السياسيين والاجتماعين والاقتصاديين بالمغرب للتآزر قصد وضع الأصبع على مكمن الخلل ومحاولة إيقاف نزيف الطفولة الضائعة.

وبالرغم من مرضها وتجاوزها لسنّ الثمانين، لم تَتَوانَ عائشة يوما عن استكمال مسيرتها النضالية، وحرصت على حضور الفعاليات واللقاءات الصحافية مستندة على عكازها، إذ كانت دوما ترحب بالصحافيين وتستقبل كل أسئلتهم بصدر رحب. هذا ما يؤكده الصحافي مراد المهوري، في تصريح لهوامش قائلا “كان لي شرف مقابلة عائشة الشنا في لقاء نظمته رابطة حقوق النساء بالدار البيضاء، لقد كانت بالفعل امرأة متواضعة وطيبة، تجيب على الأسئلة الصحفية بكل ترحاب ولا تخلف الموعد عندما يتم استدعاؤها في أي نشاط حقوقي”. 

عاشت الشنا أيامها الأخيرة وكلها أمل في أن تكمل رسالتها ويصل صوتها، وظل شغلها الشاغل هو إيجاد خليفة يكمل مشوارها. لم تعتن الممرضة فقط بمرضى الجذام الصحي، بل واصلت اعتناءها بالمصابين بمرض الجذام الاجتماعي وحاولت جاهدة أن تصالحهم بمجتمعهم وتعيد إدماجهم داخله.

سواء اتفقنا مع رؤية الشنا لقضايا النساء أو اختلفنا، وسواء توافقنا حول المصطلحات والتسميات أو تباينت آراؤنا، إلا أن هذا لا يلغي مشوار سيدة ناضلت وأزعجت بصراخها وكتاباتها كل مكونات المجتمع من أجل تسليط الضوء على واحد من أكبر المشاكل التي تنخر المجتمع من أساسه.

صورة ا ف ب

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram