هوامش
في ذلك اليوم، لم يكن “محمد اليوسفي” والد “فاطمة”، و”الحسين” و”مصطفى”، ومعهم نساء وشيوخ وأطفال الدوار، يتوقعون أن الحياة بهذه القرية ستنقلب رأسا على عقب، وستتحول القرية الجميلة الهادئة من نقطة صغيرة معزولة وسط جبال الأطلس الكبير، إلى نقطة ساخنة، تجذب اهتمام وسائل الإعلام الوطنية والدولية، وفضول رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
تقع قرية “تربطت ترسال” في قلب جبال الأطلس الكبير، بتراب جماعة “بواولي” بإقليم أزيلال، وتبعد عن مدينة دمنات بحوالي 50 كيلومترا. ويعتمد دخل سكان القرية على الزراعات المعيشية كالخضروات والذرة وأشجار اللوز والتفاح والجوز التي تزرع على جنبات واد “أسفريال”، وكذلك على تربية المواشي، وخاصة الغنم والماعز.
كما تتميز القرية بمنازلها الطينية ذات اللون المائل إلى الحمرة، وبنوافذها المطلية باللون الأبيض، مما يضفي عليها رونقا خاصا، لكن خلف هذه الصورة الجميلة تعيش القرية صراعا من أجل البقاء.
خلال فصل الشتاء، تتحول المنطقة إلى منطقة أشباح بفعل الثلوج المتراكمة على قمم جبل “رات”، 3790 متر فوق سطح البحر، والذي يطل على القرية وينفث فوقها “سمومه” طيلة أزيد من 8 أشهر في السنة، وفق إفادات ساكنة القرية.
ورغم قسوة العيش فإن ما يميز أهل هذه الربوع المنسية، وسط جبال الأطلس الكبير، البساطة في العيش وكرم الضيافة والترحاب، وهي صفات ورثها أهل القرية عن أجدادهم كما حكوا لهوامش.
كانت “زهرة” والدة “فاضمة” ومعها عائلتها، تتهيأ ككل الأمهات للاحتفال بزفاف ابنتها المخطوبة، لكن القدر خطفها من بين أيديها، وحول فرحها إلى أحزان، ما جعل القرية الهادئة التي كانت تستعد للعرس تتوشح بثوب الحداد.
نزلت “فاضمة أكزول”، 18 سنة، رفقة أختها الصغيرة التي لم تتجاوز بعد سن الثامنة، وصديقتها “فاطمة اليوسفي”، 14 سنة، إلى وادي إيفران القريب من دوار “تربطت ترسال” لرعي الغنم، وهو المكان الذي اعتدن الذهاب إليه، حيث كن يقضين يومهن هناك.
بعد تناول وجبة الغداء التي أعددنها بالمكان، شرعت الفتيات في جمع قطيع الأغنام بغية العودة إلى الدوار، بعد أن لاحت لهن غيوم سوداء في الأفق، كان ذلك إنذارا متأخرا، جرى كل شيء في حدود الساعة الرابعة بعد الزوال، وفي أقل من ربع ساعة انتهى كل شيء، وفق ما حكته مصادر هوامش.
باغتت السيول الجارفة الفتيات، وانقضت على اثنتين منهن، ولم تترك لهما فرصة للنجاة. فقد اجتاحت سيول جارفة المنطقة حاملة كل ما تجده أمامها من أشجار وأحجار، ومواشي في مشهد مخيف لم تشهده قرية “ترسال” من قبل. هذه وفق ما حكته عائلة الضحيتين
لم يمر وقت طويل حتى انتشر خبر مصرع “فاضمة” و”فاطمة” في أنحاء الدوار، بعد تأكيد مرافقتهما الصغيرة، التي نجت من الحادث بأعجوبة للخبر، وبينما سادت حالة من الاستنفار في صفوف رجال وشباب الدوار للبحث عن جثتيهما، انبرى آخرون لإحصاء الخسائر التي خلفتها السيول في الممتلكات، وخاصة بساتين الجوز والتفاح واللوز والذرة والخضروات التي غطتها الحجارة بالكامل، أو جرفتها السيول.
لم تمض سوى ساعات قليلة، تحكي زهرة والدة “فاضمة”، حتى تم العثور على جثة ابنتها، ضمن تراب جماعة سيدي بوخالف المتواجدة بنفوذ دائرة دمنات، على بعد حوالي 10 كيلو مترات من الدوار، وغير بعيد عن ذات المكان تم العثور على جثة “فاطمة اليوسفي” بمنطقة تدعى “إيروهان” بنفس الجماعة.
جرى نقل الجثث إلى الدوار، بعد رفض الأهالي نقلها إلى مستودع الأموات بالمستشفى الإقليمي لأزيلال، ووريتا الثرى في اليوم الموالي للحادث في حدود الساعة الحادية عشرة صباحا، وتحول بيت عائلة اليوسفي وأكزول إلى بيتي عزاء، حيث حل عامل إقليم أزيلال لتقديم واجب العزاء للعائلتين.
يقولون إن الواد يعود إلى مجراه القديم مهما غاب عنه، هذه مقولة تحققت يوم 2 شتنبر الجاري، بتراب قرية “تربطت ترسال”، بعد العاصفة الرعدية التي ضربت المنطقة في ذلك اليوم الذي لم تشهده القرية منذ أزيد من 30 سنة.
يقول الحسين، وهو رجل في الستينات من العمر لهوامش “لم تشهد المنطقة هذه السيول بهذه الكيفية منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، حدث ذلك سنتي 1991 و1993، لكن لم تكن الخسائر كبيرة كما سجل اليوم”.
ويضيف الحسين “السيول كانت عاتية جدا، جاءت من واد إيفران وواد أسفريال اللذين يلتقيان في القرية، نستغرب كيف حملت السيول هذه الصخور الضخمة التي ملأت الحقول، وبساتين التفاح والجوز واللوز، وأتت على كل ما يملكه بسطاء الدوار”.
أما مصطفى، الشاب الذي يطل بيته على الوادي، فحكى أن المشهد كان مرعبا لأهالي القرية الذين تابعوا ما أحدثته السيول الجارفة في ممتلكاتهم بكل حسرة.
“في ذلك اليوم كان الجميع منهمكا في جني ثمار الجوز والتفاح التي تشتهر بها المنطقة، ومنهم من خرج للعمل خارج البلدة، أما الصغار فتكلّفوا كالعادة برعي قطعان الغنم والماعز بالأودية والشعاب القريبة من الدوار”. يحكي مصطفى وهو يتذكر تفاصيل ذلك اليوم.
يتوقف مصطفى كلما اقترب في حكيه من لحظة الواقعة ثم يلخص ذلك قائلا “مرت تلك المشاهد المرعبة في رمشة عين، بعد أن كانت القرية تنعم في هدوئها وخضرة بساتينها، لم نكن نتوقع أن يحصل كل هذا الخراب بهذه السرعة”.
أمام هول الكارثة، وبعد هدوء العاصفة، شرع أهالي الدوار يحصون الخسائر التي ألحقتها السيول بممتلكاتهم، بعد أن أتلفت مساحات مهمة من الخضراوات، واقتلعت عددا من أشجار اللوز والتفاح والجوز، مصدر رزق عشرات الأسر بالقرية، وتسببت في نفوق أزيد من 100 رأس من الغنم.
أعادت السيول القرية سنوات طويلة إلى الوراء، فقد دمرت السواقي الصغيرة التي تنظم عملية سقي الحقول، وقطعت المسالك الطرقية عن بقية المنازل، وجرفت أنابيب المياه الصالحة للشرب، ما جعل ساكنة القرية تتدبر حاجاتها من المياه من إحدى العيون القريبة من الدوار، إلى حين إصلاحها، وهو ما تم بالفعل بعد حوالي أسبوعين من الحادث، حيث تكلف أهالي الدوار بإعادة ترميم ما تم إتلافه دون تدخل للجهات المسؤولة، وفق ما علمته هوامش.
الحسين، أحد المتضررين من مخلفات السيول طالب المسؤولين بالتدخل، ورفع الأضرار عن الساكنة، وأكد في حديث لهوامش أن السيول أتلفت ما يقارب 120 شجرة لوز كانت في ملكيته و40 شجرة في ملكية ابن عمه، وأشار إلى أن الخسائر كانت جد ثقيلة.
وأشار الحسين أن “ساكنة ’’تربطت ترسال‘‘ تعيش من عائدات هذه الزراعات، وكل شيء ذهب في رمشة عين بفعل العاصفة الرعدية التي ضربت المنطقة، فقد تفاجأ الجميع هنا بحجم السيول والفيضانات التي لم تشهدها المنطقة منذ التسعينات من القرن الماضي”.
أما إدريس فقال إن “ساكنة تربطت ترسال تضررت كثيرا جراء هذه الكارثة التي حلت بالدوار، وأن السيول أتت على العديد من المزروعات المعيشية التي تشكل مصدر رزق ساكنة الدوار”.
وطالب إدريس، المسؤولين بإقليم أزيلال، بالتدخل وتعويض الساكنة عن الأضرار التي لحقت بمزروعاتهم، والتخفيف من معاناتهم، وإصلاح سواقي الري التي دمرتها السيول الجارفة.
وأكد محمد اليوسفي، الذي رزئ في ابنته “فاطمة”، أن السيول جرفت حوالي 70 رأسا من الغنم كانت في ملكيته، وحوالي 40 رأس غنم كانت في ملكية أسرة أكزول التي فقدت ابنتها “فاضمة” هي الأخرى.
ويجمع أهل دوار “تربطت ترسال” أنه من الضروري جبر ضرر الأسر المتضررة من هذه الفيضانات التي ضربت المنطقة، والتي أتلفت المحاصيل الزراعية التي تشكل مصدر عيش الساكنة الرئيسي، بدل سن سياسة الصمت تجاه جروح تنضاف إلى معاناة العزلة والإقصاء والتهميش.