الرئيسية

المرس – بولمان: من الهدر المدرسي إلى صنع التميز

يتحرك يوسف تلعنين في مساحة ضيقة، بالكاد تسمح لشخصين بالتواجد فيها، يتفقد الرفوف ويعيد ترتيب الكتب ويتأكد من تصنيفها، بينما يتحقق زميله من الجرد على الحاسوب، هذا جزء من المهام اليومية التي يحرصان عليها خدمة لرواد المكتبة. هذه المكتبة التي غيرت مزاج وعادات شباب البلدة، وتسعى إلى تحويل المرس، التي عانت طويلا من الهدر المدرسي، إلى مشتل للمتميزين.

محمد تغروت

“مبادرة مكتبة تيشوكت قدمت لي شخصيا إضافة نوعية، إذ أتاحت لي الفرصة للاطلاع على العديد من الكتب، التي ما كنت لأطلع عليها في البلدة، في غياب مكتبات وفضاءات تتيح ذلك، فقد تمكنت بفضلها من الانفتاح على القراءة، وتطوير مهاراتي المعرفية والحياتية، وهو الأمر الذي لم يكن متاحا لي عندما كنت صغيرا ” يقول محمد أمغار، عضو جمعية اقرأ ومستفيد من خدمات مكتبة تيشوكت.

تقع جماعة المرس بإقليم بولمان، وتبعد عن مدينة إيفران بحوالي 100 كلم، وعن مدينة فاس بحوالي 148 كلم، ويناهز عدد سكانها 6 آلاف نسمة، يتوزعون على المركز وحوالي 21 دوارا، في جبال الأطلس المتوسط.

الوصول إلى المرس ليس بالمهمة السهلة، يقول حفيظ تيليلوت، الفاعل الجمعوي وابن المنطقة “العائق الأول الذي يعترض وصولك إلى المرس هو إشكال النقل، إذ أنه إذا لم يكن المرء يتوفر على وسيلة نقل شخصية، سيجد صعوبة في الوصول إليها، خصوصا من مدينة بولمان إلى المرس، فوسيلة النقل المتعارف عليها ب”النقل المزدوج”، هي التي تساهم في فك العزلة عن مجموعة من الدواوير، لكن مستعمليه يعرفون أن الطريق التي يمر منها، والتي تشكل حوالي 28 كلم منها طريق غير معبدة، غير صالحة لتوفير خدمة تليق بالساكنة”.

مكتبة تيشوكت بمركز المرس مبادرة تهدف إلى صناعة جيل من القراء 

عند وصولك إلى جماعة المرس، وبعد المرور بطريق متربة ومليئة بالحفر، تلفت انتباهك يافطة بيضاء تعلو بوابة صغيرة، مكتوب عليها “المكتبة”، إن لم تكن على علم مسبق بالمبادرة، ستبدو لك مجرد محل تجاري لبيع الكتب والأدوات المدرسية، غير أن الأمر أكبر من ذلك، إذ يتعلق بمبادرة شبابية مواطنة، تهدف إلى خلق ثقافة قرائية بمنطقة تفتقر إلى الكثير من الحاجيات الأساسية.

كانت البداية في نقاشات شبابية، سنة 2019، بجماعة المرس، جمعت طلبة من أبناء المنطقة، لخلق دينامية تستجيب لاحتياجات أبناء الجماعة، يوسف تلعنين، رئيس جمعية إقرأ وأحد المساهمين في تسيير مكتبة تيشكوت، يحكي عن الانطلاقة “حاولنا في البداية أن نؤسس مكتبة، كانت عبارة عن تجميع للكتب المدرسية المستعملة، ثم إعادة توزيعها على من هم في أمس الحاجة إليها في بداية كل موسم دراسي، غير أنه بعد نقاشات متتالية بين أطر جماعة المرس، استطعنا تكوين رؤية تتجسد في تنويع خدمات المكتبة”.

من مبادرة تسعى إلى توفير وكراء الكتب المدرسية للتلاميذ، تطور الأمر إلى توفير وكراء قصص وروايات لمحبي القراءة، بأثمنة رمزية ثم إلى تنظيم أروقة للكتاب داخل المؤسسات التعليمية بالمرس، تشجيعا للقراءة والكتاب بين أوساط الجيل الصاعد، لتتوج هاته الانشطة برحلة ثقافية من المرس نحو المعرض الدولي للكتاب بالرباط، وهو أمر قد يبدو بسيطا، غير أنه محفز كبير لمن عاش طيلة حياته في الهامش.

لتنزيل هذه المبادرات وتطويرها كان من اللازم تأسيس إطار مدني، يضفي على المبادرة طابعها القانوني، وتمثل ذلك في جمعية اختير لها من الأسماء جمعية “إقرأ”، بعد ذلك “حددت الجمعية ثلاثة أهداف أساسية: توفير كتب المقرر الدراسي ثم توفير كتب للمطالعة الحرة، ونظرا لأن المنطقة تعيش أزمة القراءة والعزوف عنها، فكان لابد من القيام بأنشطة قصد تشجيع التلاميذ والتلميذات على القراءة، بالإضافة إلى هدف آخر، يتمثل في التوجيه الدراسي بتنسيق مع مختصين في المجال”.

ولتسهيل حصول التلاميذ على الكتب، قررت الجمعية أن تكون الاستفادة مقابل مساهمة رمزية، تتمثل في اشتراك سنوي قدره خمسة دراهم لكل كتاب من كتب المقرر المدرسي، على طول الموسم الدراسي، أما ما يتعلق بكتب المطالعة الحرة، وبعد أن كانت الجمعية تتيح الاستفادة منها مقابل 20 درهما لكل ثلاثة أشهر، أصبحت تتيح إمكانية اشتراك سنوي مقابل 40 درهما لكل مستفيد، “هذه المداخيل على قلتها، نستعملها من أجل تمويل أنشطة الجمعية وتحقيق الهدف الأسمى للجمعية المتجسد في توسيع النشاط القرائي عموما” يقول يوسف تلعنين.

تعتمد جمعية اقرأ، صاحبة مبادرة مكتبة تيشوكت، في مواردها على مساهمات أبناء وبنات المنطقة، وهذه الموارد على شحها يتم استعمالها لأداء واجبات كراء المقر، وتمويل الأنشطة (مسابقات، رحلات) وكذا اقتناء كتب لإغناء المكتبة، وتطمح الجمعية في الحصول على إسهامات ومنح من الجهات المسؤولة على الشأن الثقافي محليا وإقليميا ووطنيا.  قصد التمكن من تطوير عملها وتنزيل برامج مستقبلية توازي طموحها.

جماعة المرس من ارتفاع نسبة الهدر المدرسي إلى خلق جيل التميز

إلى عهد قريب كانت جماعة المرس تعرف انتشارا كبيرا لظاهرة الهدر المدرسي، إذ في غياب بنية تحتية مناسبة، وفور بلوغهم مستوى السادس من التعليم الأساسي، كان تلاميذ الجماعة يضطرون إلى الانتقال إلى بلدة سرغينة، التي تبعد بحوالي 12 كلم، عن مركز جماعة المرس، وأكثر من ذلك عن دواوير أخرى محسوبة على ذات الجماعة، أو إلى مدينة بولمان التي تبعد عن مركز المرس بما يناهز 45 كلم، وما يصاحب ذلك من مشاكل مرتبطة بالبحث عن السكن، وهو الأمر الذي لم يكن متاحا للجميع، مما أدى إلى انقطاع العديد من أبناء الجماعة عن الدراسة، خصوصا الفتيات.

وشهدت الجماعة في سنة 2012 احتجاجات، طالبت من خلالها الساكنة بالتسريع في بناء مدرسة جماعاتية، وهي مؤسسة أصبحت اليوم تحتضن جميع أبناء مركز الجماعة والدواوير المحيطة بها.

بعد ذلك شهدت المنطقة احتجاجات للمطالبة بتوفير مؤسسة تعليمية لمستويات الإعدادي والثانوي، فتم إحداث نواة مؤقتة، ثم أنشئت ثانوية بدر الإعدادية بالمرس، وهو ما ساهم في التخفيف من مشكل الهدر المدرسي في المنطقة.

لقد “قطعت المرس نسبيا مع عهد الهدر المدرسي، الذي عانت منه أجيال وأجيال، إلى حد أنه يمكننا القول أننا في المرس انتقلنا من محاربة الهدر المدرسي إلى صناعة جيل التميز” يقول حفيظ تيليلوت، الفاعل الجمعوي وابن المنطقة.

مركز نواة التميز…نحو بناء جيل كامل من المتميزين 

مكتبة تيشوكت على أهميتها وأهمية الخدمات التي تقدمها لأطفال وتلاميذ الجماعة، ليست المبادرة المواطنة الوحيدة في الجماعة، إذ أخرج شباب المنطقة مبادرة لا تقل عنها إبداعا وأهمية، ويتعلق الأمر بمركز نواة التميز، والذي انطلق افتراضيا على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن يتم إنزاله بشكل واقعي في مركز المرس، في بداية الموسم الدراسي 2021-2022.

ولإنجاح المبادرة تم تأجير مقر بسيط، وتجهيزه بشكل تضامني بمساهمات من أبناء المنطقة، بحواسيب وطاولات وكتب، إضافة إلى مختبر للتجارب العلمية وشاشات عرض، كما تم اعتماد نظام معلوماتي من إبداع متطوعي المركز  مع أحدث برنامج لتعلم اللغات، فضلا عن شبكة من العلاقات في المعاهد والمؤسسات العليا، ويجري البحث عن موارد إضافية للمركز تضمن تجويد خدماته واستمراريتها، ومن المنتظر أن ينقل المركز أنشطته إلى دار الشباب حيث سيتم توفير قاعة خاصة به.

عبد المجيد تيليلوت، رئيس مركز التميز بجماعة المرس، أكد في تصريح لهوامش أن “المركز تمخض عن لقاءات أخوية يتم تنظيمها كل صيف بين شباب المنطقة، وعلى إثر تقييم أولي لحصيلة نتائج تلاميذ الباكالوريا في المنطقة، حيث لاحظنا أن الأغلبية تعاني من ضعف في المواد العلمية واللغات الأجنبية بصفة عامة، فقررنا الإشتغال على هذا المستوى”. 

وأضاف المتحدث أن “المركز يتكون من عدة أندية، إذ ركزنا في البداية على ثلاثة مواد، على شكل ثلاثة أندية: نادي شكسبير الذي خصصناه للإشتغال مع التلاميذ على اللغة الإنجليزية، ونفكر في إضافة اللغة الفرنسية، ونادي الخوارزمي، وخصصناه لتعلم مادة الرياضيات، ونادي آخر خاص بالإبداع والتميز، وهذا الأخير يهتم بالعمل على التنمية الذاتية والمهارات (soft skills)  الخاصة بالرواد”. 

يعتمد المركز على تغيير المصطلحات وانتقاء الأكثر إيجابية منها، محاولا الخروج من السياق التقليدي للمدرسة، حيث عوض “تلاميذ” يُطلق على المسجلين بالمركز لقب “الرواد أو الرائدات”، ومقابل الفروض والامتحانات يتم استعمال مفهوم “تحديات”. وليصبح المرء رائدا بمركز نواة التميز يكفي إبداء الرغبة والالتحاق ثم الالتزام بالحضور والمواظبة، ومن تم اجتياز اختبارات تشخيصية، في اللغات والمواد العلمية والمهارات الحياتية، سهر فريق من الأطر المتطوعين على إعدادها بطريقة علمية دقيقة تساهم في معرفة المستوى الحقيقي لكل رائد، وبعدها يتم الاندماج في برنامج المركز عن طريق التعلم الذاتي الحر في المواد العلمية واللغات الحية وتطوير المهارات التواصلية.

ويعمل المركز على تحفيز الرواد وتعويدهم على تحمل مسؤولية التأطير، إذ لا يتم الإقتصار على مشرف دائم، بل تتاح الفرصة للجميع لبناء الاستقلالية، ويكتفي المؤطرون بتوجيههم ومساعدتهم في تقنيات البحث عن المعلومة.

ويطمح فريق نواة التميز إلى المساهمة في تطوير مهارات مع رائداته ورواده باستمرار، في أفق صناعة جيل كامل من المتميزين بجماعة المرس، والمساهمة في التحاق 25% من تلاميذ البكالوريا في المرس بالمدارس والمعاهد العليا سنة 2027. 

#حملة_جمع_1000_كتاب_لمكتبة_تيشوكت دعوة للمساهمة في نشر ثقافة القراءة

تراهن المبادرات المشار إليها،  على الاحتضان الشعبي أو الرسمي، باعتبارها مبادرات مواطنة تقوم على التضامن والتعاون، لهذا الغرض أطلقت جمعية إقرأ #حملة_جمع_1000_كتاب_لمكتبة_تيشوكت ، وهي دعوة لكل أبناء وبنات المنطقة في كل المناطق والمدن داخل المغرب وخارجه، وكل المهتمين قصد المساهمة في تطوير هذا المشروع، بكل الوسائل الممكنة، سواء تعلق الأمر بتزويد المكتبة بكتب، أو بمساهمات مادية لتمويل مختلف أنشطتها لتوسيع النشاط القرائي في المنطقة.

وأوضح محمد أمغار أن الجمعية “بصدد التقدم في تحقيق هذا الهدف، بمساعدة المساهمين من أجل التشجيع على القراءة، وهي على أهميتها، ورغم كونها تشكل إضافة نوعية في المنطقة، تظل غير كافية، ولا تلبي طموحات أبناء المنطقة، الذين يسعون إلى المزيد من مثل هذه المبادرات، خصوصا على مستوى الفرعيات المحيطة بجماعة المرس، حيث نجد أن الرصيد المعرفي ضئيل جدا لدى التلاميذ”.

مضيفا أن الراغبين في المساهمة في هذا المشروع يمكنهم التواصل مع الجمعية عن طريق الصفحة الرسمية لمكتبة تيشوكت أو الصفحة الرسمية لجمعية إقرأ المرس.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram