مريم أبروش
بترت قدمه اليسرى بسبب حادثة سير وهو طفل، الحادثة التي تجاوز آثارها بعشق المغامرات وعيش التحديات. عبد العزيز العدناني، شاب من ذوي الهمم العالية، في أواخر العشرينات من العمر، متسلق جبال هاوٍ من الدار البيضاء.
“ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر” بيت شعري كتبه أبو القاسم الشابي قبل نحو قرن، اتخذه عبد العزيز شعارا له في الحياة، غير آبه بكل المعيقات التي تقف في طريقه، وغير حافل بالآلام التي يستشعرها وهو يقطع المسافات الطوال ويتسلق حواف الجبال.
الحكاية بدأت وهو ما يزال طفلا في الرابعة من عمره، لا يدري عن تحديات الحياة شيئا، فكل همه ينحصر في قضاء أطول وقت في اللعب واللهو شأنه شأن أقرانه من الأطفال. بعد زيارة للعائلة والجيران في المدينة القديمة للدار البيضاء، لم يكن عبد العزيز يدري بأن حياته “ستنقلب رأسا على عقب” وأن ذلك اليوم سيكون مفصليا في حياته، ففي طريق العودة استقلت الأسرة الحافلة كالعادة، كانت محطة الانتظار مزدحمة كما هو معتاد أيام الآحاد، أتت الحافلة، والكل يتسابق لضمان كرسي، وما أن وضع عبد العزيز قدمه في الحافلة، حتى انطلق السائق دون أن ينتبه، فسقط الطفل أرضا وانزلقت رجله تحت الحافلة فدعستها العجلات.
مشهد لم يكن عبد العزيز لينساه بسهولة، وما سيليه من تداعيات سيقيد حياته لفترة من الزمن. بعد استشارة من الأطباء، تم الاتفاق على بتر الساق. قرار لم يكن باليسير اتخاذه، إلا أن عبد العزيز يرى اليوم -وبعد أن مرت كل تلك السنوات على الحادثة- بأنه القرار الأصوب، إذ أن قرار البتر هو ما جعله اليوم يتحرك بأريحية أكبر مقارنة بأولئك الذين اتخذوا قرار تركيب المسمار النخاعي.
بنبرة متفائلة يحكي عبد العزيز لمنصة هوامش “الحمد لله على كل حال، لم تكن حياتي يسيرة، فأن يتقبل طفل في الرابعة من العمر فكرة فقدانه لساقه هو أمر عصيب، غير أني وبعد سنوات اكتشفت أني مميز بالفعل وبأني أستطيع تحقيق ما أوده ولو بساق اصطناعية، الأمر الذي مثل لي تحديا عظيما أعيش به كل يوم”.
كبر عبد العزيز وكبرت معه رغبة جامحة وفضول قوي لاكتشاف العالم، أغرم بالرياضة فأضحى مواظبا عليها، يتمرن ويلعب كرة القدم بشكل شبه يومي مع أصدقائه، والأهم يقول عبد العزيز “لم أجعل من ساقي عائقا، ولم أنطوِ على نفسي كما يفعل الكثيرون، بل استوعبت ضرورة تقبل الحادثة والتسليم لقضاء الله للمضي قدما بحياتي”.
جبل إمسفران بنواحي مدينة بني ملال، جبل بعلو يزيد عن 1800 متر، كان البوابة الأولى لعبد العزيز لاكتشاف عالم تسلق الجبال. حقيبة ظهر محملة ببعض أغراض السفر المتاحة وساق اصطناعية، لوازم كانت كافية لعبد العزيز لينطلق من أجل خوض غمار تحد يجهل أبسط تفاصيله. يحكي عبد العزيز لهوامش عن تجربته قائلا “لم أكن أعي حجم التحدي الذي سأقبل عليه، فالقصة بدأت باقتراح مازح من صديقَين، وافقت عليه دون أي تردد. لم أستطع النوم ليلتها، كنت كالطفل ليلة العيد، طفل ينتظر بفارغ الصبر أن تشرق شمس الصباح ليعيش المغامرة التي طالما انتظرها”.
بنبرة فخر يكمل حديثه قائلا “انطلقنا لمنطقة الكاتدرال وتسلقت جبل إمسفران. استغرقت 7 ساعات في تسلق الجبل، لن أدعي أن التجربة كانت يسيرة، بل العكس تماما، كان الأمر صعبا للغاية، فقد كانت تلك تجربتي الأولى، أضف إلى ذلك أن ساقي الاصطناعية كادت أن تودي بحياتي في أحيان كثيرة لولا لطف الله، وسرعان ما كنت أتعب وأستشعر آلاما بسبب المشي الطويل، لكني تحديت نفسي وأبيت إلا أن أصل إلى القمة… ووصلت”.
يسعى عبد العزيز إلى تغيير النظرة النمطية اللصيقة بذوي الاحتياجات الخاصة، خاصة مبتوري الأطراف، آملا أن يتغير وضع البلد، ويتم إتاحة فرص ولوجهم بشكل سلس إلى جميع المؤسسات ووسائل النقل دون أي صعوبة أو مضايقة. رغم علمه بمدى صعوبة تحقيق هذا التغيير، إلا أنه يأمل في التأثير بطاقته الإيجابية على أقرانه من أجل تحفيزهم على ممارسة الرياضة وتحدي المعيقات، وهو الآن يستعد لخوض غمار تجربة تسلق جديدة لقمم أخرى، وإعادة التجربة لكن بوسائل أكثر أمانا وحماية هذه المرة.
عابرة، شابة في أواخر العشرينات من عمرها من مدينة الدار البيضاء، اختارت نمط حياة يختلف عن قريناتها، فقد شَغَفَها الترحال واكتشاف العالم، لتتخذ من حقيبة ظهرها صديقة، وتنطلق في رحلات متعددة إلى مختلف أنحاء المغرب ثم تبعت شغفها خارج المغرب متجهة جنوبا.
ما يميز عابرة، ويجذب الانتباه إليها، هو أنها اختارت أن ترتدي النقاب المغربي والجلابة التقليدية في رحلاتها ومغامراتها، مؤمنة بأن الفتاة تستطيع خوض هذه التحديات بمفردها، وبأن السفر حق للجميع. لم تهب طول الطريق ولا وعورته، ولا اختلاف الثقافات واللغات، بل تحدّت نظرة المجتمع للفتاة الرحالة وانطلقت لتكتشف ذاتها في شساعة العالم.
تقول عابرة في حديثها مع منصة هوامش “الترحال (Trip) هو نمط حياتي، أستشعر فيه راحة عظمى، ببساطة هو نمط أكتشف فيه ذاتي بذاتي”. تحمل عابرة رموز الثقافة المغربية في داخلها، لذلك أبت إلا أن تحتفظ بزي المرأة المغربية التقليدية أثناء سفرها، بل وتحاول إيصاله لدول أخرى ليكتشفوا المغرب من خلالها. تقول عابرة “ستايل ديالي مستلهم من الثقافة المغربية داك شي علاش اختاريتو حيت بكل بساطة بغينا حنا الشباب نديرو تجديد لثقافتنا ونكونو مفتخرين بيها”.
لم تكن عابرة تعتقد بأن رحلتها التي ابتدأت من الدار البيضاء ستعبر حدود المغرب وتصل إلى غامبيا، وذلك فقط عن طريق “الأوتوسطوب”. في سنة 2019، ومن شوارع مدينة البيضاء المزدحمة، بدأت عابرة رحلتها لتستكشف بلدها بعدما أضناها مرض “ثنائي القطب”. ومن شوارع البيضاء وصولا إلى الأقاليم الجنوبية التي لطالما أحبتها، وجدت عابرة نفسها عند الحدود المغربية الموريتانية، تحكي عابرة “كنت أحمل معي جواز سفري تحسبا لأي فرصة، لم أخطط أبدا لذلك، لحظتها اتصلت بأمي لأخبرها بالأمر، فلم تصدقني حينها وحسبتني أمزح”.
حطت عابرة رحالها في موريتانيا، وانسجمت بشكل جميل مع أهل البلد، تقول عابرة “لقد لقيت ترحيبا واستقبالا جميلين من الموريتانيين، هم أناس مضيافون جدا”. بعد أيام تجولت فيها في شوارع موريتانيا وأسواقها، جمعت عابرة حقيبة سفرها مجددا لتجد نفسها في السنغال، الدولة التي لم تغادر روح عابرة إلى اليوم، فهناك تعرفت على أناس جدد بل وحاولت تعلم لغتهم والتقرب من ثقافتهم.
زيارة موريتانيا أذكت فضول عابرة وانطلقت في رحلة اكتشاف إفريقيا جنوب الصحراء، فبعد السنغال واصلت الرحالة الشابة مسيرتها إلى غامبيا، لتكتشف جمالية حدائقها وشواطئها. وبنفس وسيلة النقل “الأوتوسطوب”، ستعود عابرة لبيتها بعد رحلة دامت أكثر من ثلاثة أشهر. رحلة غيرت الكثير في شخصية عابرة وجعلتها تربط علاقات إنسانية قوية، في هذا الصدد تقول لمنصة هوامش “إن الناس مضيافون جدا، لقد أعجبت بالسنغاليين والغامبيين، أناس بشوشون، محبون لتقديم يد العون للغريب، لقد أصبحوا عائلتي الثانية”.
جالت عابرة أرجاء المغرب طولا وعرضا، فأعجبت بجمال مدن الشرق وعشقت أقاليم الجنوب وهدوء الشمال وأحبت مدن الغرب. هي الشابة التي توثق ذكرياتها بصور وفيديوهات سفر تشاركها على وسائل التواصل الاجتماعي، ليتابعها اليوم ما يقارب 50 ألف متابع على منصة الإنستغرام. عابرة، بحسها المرح وتميزها بالزي المغربي الأصيل استطاعت أن تمزج بكل إتقان بين التقليدي والمستجد وبين التسلية والمسؤولية، لتقدم بذلك صورة متميزة المرأة المغربية. بنبرة إصرار ومرح تختم عابرة حديثها مع هوامش قائلة “حلمي أن أزور العالم بأكمله وأنا أرتدي الجلابة والنقاب المغربي”.
سنة 2019، وهو ما يزال طفلا في الخامسة من عمره، أصبح يحيى أصغر شخص على مستوى العالم يتسلق جبل توبقال، أعلى قمة في شمال أفريقيا، قمة يفوق علوها 4000 متر، لينتزع بذلك اللقب من الطفل الإيرلندي جوشوا دافيسون الذي أحرزه بعمر ست سنوات. تحدٍّ لم يكن ليحققه يحيى بمفرده، فقد كان والده عمر الخياط الرفيق والمرشد.
في اتصال فيديو، يحكي يحيى لمنصة هوامش عن تجربته في تسلق قمة جبل توبقال، وبصوت طفولي مفعم بالحماس يقول “أحسست بفرحة كبيرة حين وصلت إلى أعلى قمة جبلية بشمال إفريقيا، كانت الطريق صعبة جدا، لكني لم أستسلم واتبعت إرشادات والدي إلى أن وصلت”. لم يكن النجاح في تسلق الجبل نصيب يحيى بمفرده، بل كان إنجازا اشترك فيه الأب عمر بمعية فريق مختص بقيادة المتسلق العالمي المهدي أمران.
لم تكن قمة جبل توبقال تجربة يحيى الأولى، فقد استطاع المغامر الصغير تسلق قمتين جبليتين قبل ذلك وهو ما يزال في سن الرابعة. كانت قمة توفليحت لقاءه الأول بعالم تسلق الجبال، قمة ترتفع عن سطح البحر بـ 2289 متر، تلتها قمة جبل إمسفران بعلو 1868 متر. قمم لم تكن بالنسبة ليحيى سوى تدريب رياضي ونفسي يؤهله لتسلق قمة توبقال.
ليست تجربة تسلق قمم الجبال بالتجربة اليسيرة، فما بالك أن تكون بمعية طفل لا يتجاوز عمره الخمس سنوات هذا ما أوضحه عمر بلخياط، والد يحيى، في تواصلنا معه، ليشاركنا القصة بعين الأب والمرافق. يقول عمر “إن السفر مع طفل في هذا السن يتطلب تحمل مسؤولية أكبر والاهتمام بالتفاصيل بشكل أدق، فنحن في آخر المطاف أمام طفل يجب أن نفهم احتياجاته، لذا أحرص أن نتحرك بإيقاع يتناسب وقدراته الجسدية، وأن نقف ليرتاح بين فينة وأخرى حرصا منا على ألا يتعرض لضربة شمس أو جفاف. صحيح أنها مسؤولية كبيرة، لكن التجربة تستحق فعلا”.
لُقّب يحيى بالمغامر المغربي الصغير، عشق رياضة تسلق الجبال التي تشرب حبها من والده، يقول يحيى “أبي يشجعني دائما على ممارسة رياضة تسلق الجبال، إذ كنت أرافقه وأنا ما أزال في سن الرابعة، أبي هو قدوتي”. بكل فخر يتحدث يحيى عن أبيه، ويحكي كيف دأب على تشجيعه وحثه على ممارسة الرياضة واتباع شغفه في تسلق القمم الجبلية في سن صغيرة. يقول يحيى “رغم حبي للرياضة والسفر أحاول أن أوازن بينها وبين دراستي، لذا أحرص على ممارسة الرياضة في عطلة نهاية الأسبوع، وأسافر في العطل المدرسية”. ويضيف الأب “بقدر ما أشجع يحيى على الرياضة وتسلق الجبال، أحرص على أن لا يؤثر الأمر على مساره الدراسي”.
استطاع المغامر الصغير تسلق 15 قمة جبلية وهو لم يتجاوز بعد ثمانية أعوام، ومن أهمها: قمة توفليحت، قمة تنامروت، قمة جبل أنغمر، قمة تيمغازين، قمة إسفولا، قمة الجبل الأبيض، قمة أوكايمدن، وآخرها كانت قمة جبل تيزيران بشمال المغرب، واستطاع يحيى في سن صغيرة عبور الممر الأمازيغي بأزيلال، والذي يعتبر ثالث أخطر ممر في العالم. كما صنف من قبل المنصة التركية Summitbook كأصغر متسلق لسنة 2020 و2021 على التوالي.
“كننصح الأطفال كاملين أنهم يجربوا تسلق الجبال حيت غايعجبهوم بزاف” بكل ابتسامة وعفوية يختم يحيى لقاءه مع هوامش، ويضيف قائلا “حلمي نولي مهندس ونكون متسلق جبال محترف”.
يحرص الأب على توثيق كل رحلات يحيى ومغامراته لمشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فأنشأ له قناة خاصة على منصة اليوتيوب، ليصبح يحيى بمغامراته الشيقة مصدر إلهام لمجموعة من الأطفال الصغار، بل وحتى للكبار، إذ أظهروا في لقاءاتهم معه انبهارهم بإنجازات هذا المغامر الصغير وبأنه مصدر تحفيز لهم لتحدي أنفسهم وتسلق جبل توبقال. يقول الأب عمر “أحرص دوما على تلقين ابني منذ صغره أدبيات السفر، وأجعله يتواصل مع أناس جدد من ثقافات مختلفة، ففي رحلاتنا نلتقي كل مرة بأناس من مختلف الجنسيات، ودوما ما ينبهرون بيحيى وبإصراره على تكملة المسير”.