سامي صبير
منصة هوامش شدت الرحال لاستكشاف هذا الدوار، والبحث عن فصول حكاية هجرة جماعية خطّها التهميش، وتشهد عليها أطلال منازل كانت إلى زمن قريب تنبض بالحياة. هناك قابلنا الشيخ أحمد الذي كان فقيه الدوار يؤم المصلين ويلقن الصبية القرآن، قبل أن يهاجر أكثر من نصف السكان ويتحول المسجد القريب من منزله إلى خراب.
أحمد شيخ في ربيعه الثمانين، أمضى جل حياته بالدوار ومازال صامدا ولا يفكر في الرحيل، يصف الوضع قائلا “كان الدوار في الماضي يعج بالحياة ليل نهار إلا أن قسوة العيش والبؤس دفعا السواد الأعظم من السكان، وخصوصا الشباب، إلى الرحيل في اتجاه المدن ولم يبق سوى العجزة أمثالي، ولولا ما يرسله لي أبنائي، الذين هاجروا بدورهم بحثا عن الشغل، لكنت قضيت نحبي من المعاناة، فلا شيء هنا سوى الفقر”.
يقع دوار اݣسيمة بالجهة الشمالية لإقليم الصويرة على الحدود مع إقليم أسفي، على بعد أكثر من 8 كيلومترات عن الجماعة القروية “سيدي عبد الجليل”، إلا أنك تشعر أن المسافة أبعد من ذلك بكثير بسبب المنعرجات الوعرة والمسالك الترابية الضيقة المؤدية للدوار والتي تملؤها الحجارة، حيث لا يمكن التنقل له على متن السيارات، فطريقه سالكة للدواب والدراجات النارية، اضطررنا في منتصف الطريق إلى الترجل عن الدراجات التي أقلتنا من مركز الجماعة القروية، كلما تقدمنا نحو الدوار تشتد وعورة التضاريس وتصبح مثل تلك التي يعرضونها على التلفزيون لسباقات التحدّي.
وصلنا بصعوبة إلى الدوار، مع كل خطوة نخطوها تتبدّى آثار التهميش، بنايات بسيطة من الحجارة والطين الجاف مهجورة تغطي جزء كبيرا من القرية، الصمت يسود المكان باستثناء نباح الكلاب، لم يمض على وصولنا إلى الدوار وقت طويل حتى التقينا بميلود وهو أحد أبناء الدوار الذي هاجر بدوره وأضحى يزور منزل أسرته القديم بين الفينة و الأخرى.
استقبلنا ميلود بكرم وحسرة على ما آل إليه وضع الدوار، وأوضح في تصريحه لهوامش، بأن العزلة التي تعيشها القرية بسبب غياب طريق معبدة لعب دورا كبيرا في هجرة الساكنة، يقول “هجرت الدوار قبل قرابة سنة بسبب غياب الطريق، أخبرنا المسؤولون بأنهم سيقومون بإصلاحها لكن لا شيء من ذلك حدث، فقررت الهجرة للبحث عن واقع أفضل، لدي أبناء يدرسون وكنت دائما أضطر لمرافقتهم على ظهر البغل إلى تالمست بمشقة”.
روى لنا ميلود كيف هجر شقيقه القرية قبله لنفس الأسباب، وعن متاعب الوصول إلى المستشفى، وكيف تُحمل النساء الحوامل حين المخاض على ظهر حمار، “ترفض سيارة الإسعاف القدوم لنقلنا بسبب عدم وجود طريق سالكة، فنضطر إلى التنقل باستخدام البهائم، الأغلبية رحلوا أما الباقون فيستمرون في العيش هنا مكرهين”.
وحسب المعطيات الرسمية فقد تم إنجاز 56 مشروعا، بقيمة إجمالية بلغت 178 مليونا و442 ألفا و900 درهم (49 ألفا و87 مستفيدا)، خلال الفترة ما بين 2019 و2021، في إطار برنامج التقليص من الفوارق المجالية والاجتماعية في الوسط القروي بإقليم الصويرة، إلا أن دوار اݣسيمة لم يكن له نصيب من هذه المشاريع لفك عزلته وإخراجه من حالة التهميش التي دفعت جل سكانه للاستمرار في الهجرة إلى المناطق الحضرية القريبة والبعيدة.
ووفق المستشار الجماعي رشيد الكبش، الذي رافقنا في رحلتنا، فإن دوار اݣسيمة قد تحول لما يشبه قرية أشباح، وأضحت المنازل به مجرد أطلال بعدما اضطر أصحابها إلى الهجرة مكرهين بسبب مشكل العزلة وغياب الربط بالماء الشروب، لأجزاء كبيرة من القرية، حيث يضطرون إلى قطع كيلومترات من أجل الحصول على القليل من الماء وهو غير متوفر بشكل يومي، إضافة إلى حرمانهم من مجموعة من الخدمات الاجتماعية من قبيل النقل المدرسي والإسعاف، فضلا عن الغياب التام لشبكة الهاتف والتي تعد بالنسبة لهم من الكماليات رغم أهميتها في الوقت الراهن.
التقينا خلال زيارتنا للقرية بهشام، 32 عاما، نشأ هنا في دوار أݣسيمة الذي أكد أن إقصاء الدوار من برامج التنمية دفع تقريبا 76 في المائة من السكان إلى الهجرة أما البقية فلم يجدوا بديلا. وقال المتحدث “إن معيشة سكان القرية تعتمد بشكل كلي على الزراعة المعيشية وعلى الأمطار نظرا لعدم توفر مياه جوفية في المنطقة، وبسبب قلة التساقطات في السنوات الأخيرة تفاقمت معاناتهم، وهو ما رفع من وتيرة الهجرة”، هشام بدوره اضطر إلى شد الرحال صوب المدن الكبرى مثل أكادير والدار البيضاء من أجل البحث عن عمل يعيل به أسرته.
يواجه أهل الدوار والحيوانات والنباتات شح المياه، وحين تجتمع ندرة المياه مع التهميش تزداد معاناة السكان بشكل ملحوظ، وقد أصبحت الزراعة أشد صعوبة بالنسبة لفلاحي المنطقة وعليهم البحث عن بديل، وأوضح الشيخ أحمد بأنهم لم يتمكنوا من زراعة الحبوب منذ سنتين، وأضحى المورد الرئيسي لمن مازال مستقرا في القرية هو الحوالات المالية التي يبعثها أبناؤهم الذين اختاروا الغربة والعمل في المناطق الحضرية.
وحسب ميلود فقد كانت الحياة في القرية في الماضي جميلة، وقال إن “الكل كان يشتغل وكان الدوار مكتظا بالسكان، أما اليوم فقد رحل الجميع، اختفى البشر والبهائم”، وأضاف “الحياة أضحت صعبة، وتربية الماشية والزراعة أمرا مستحيلا في ظل الجفاف”.
خلال معاينة هوامش لحكاية دوار اݣسيمة، صادفنا حادث انقلاب عربة مجرورة كان على متنها بوشعيب وكاد يتسبب له بكسر على مستوى الساق، وليس هذا هو الحادث الأول الذي تعرض له، حيث سبق وتعرض لحوادث مشابهة بسبب وعورة التضاريس، فهو يقطع يوميا أكثر كيلومترين لجلب مياه الشرب، وفي حالات كثيرة يجدها مقطوعة.
يقلق هذ الواقع بوشعيب، ويرى أن ثمن بقائه في القرية باهظ، حيث سبق واضطر إلى توقف ابنتيه عن الدراسة بعد انهائهن للمستوى الدراسي السادس بسبب عدم إمكانيته مرافقتهن بشكل يومي على ظهر الحمار إلى المدرسة الإعدادية، خصوصا في فصل الشتاء، وذلك نظرا لعدم استفادتهن من الإيواء في القسم الداخلي بسبب الاكتظاظ.
وحدثنا الشيخ أحمد عن كلفة مرافقة زوجته من أجل التلقيح ضد فيروس كورونا المستجد، حيث أنفق 600 درهم من أجل كراء سيارة تقلّهما إلى مركز التلقيح، عقب قطعهما عدة كيلومترات ممتطين الحمير للوصول إلى أقرب نقطة يمكن للسيارة بلوغها.
وأضاف بوشعيب أنه خلال فصل الشتاء يصبح حتى التنقل بواسطة البهائم مستحيلا بسبب السيول ووعورة التضاريس، حيث يصبح الخيار الوحيد أمامهم هو انتظار تحسن الطقس وجفاف الأرض من أجل التنقل، مشيرا إلى أنه هو الأخر يفكر في الهجرة في أية لحظة، خصوصا إذا لم تشهد المنطقة تساقطات مطرية خلال شهري يناير وفبراير القادمين.
ومن جهته حكى لنا ميلود قصة إحدى الأسر التي لم تجد بديلا عن الانتقال من الدوار، حيث عانت العائلة، ولمدة أكثر من سنة، من رحلات شاقة على ظهر حمار لنقل ابنتها التي تعاني من فشل كلوي إلى المركز الصحي من أجل الخضوع لجلسات تصفية الدم، سنة من المعاناة انتهت بوفاة الفتاة تاركة غصة في حلق والديها.
وفي تصريحه لمنصة هوامش أكد المستشار الجماعي رشد الكبش، أن أهل المنطقة سبق وتقدموا عدة مرات بمراسلات وعرائض، إلى المجالس المنتخبة المتعاقبة وإلى عامل الإقليم، من أجل فك العزلة وتمكينهم من أبسط الخدمات الإجتماعية، ولكن مطالبهم لم تجد آذانا صاغية وظلت مجرد حبر على ورق.
غادرنا الدوار تاركين وراءنا أطلالا وصمتا مريبا، محملين بتفاصيل حكاية لم تنشر من قبل، تروي ما حل بقرية مطمورة على هامش التلال، وكيف دفعها التهميش إلى أن تتحول إلى قرية أشباح.