مريم أبروش
“ليلا، تكون السماء صافية كما لم أرها من قبل، سماء صافية تزينها نجمات تلمع بشكل مدهش، أجلس قرب شعلة النار أمام الخيمة وأحتسي كأس شاي بالأعشاب في هدوء تام أستمع فيه فقط لصوت الطبيعة. هو إحساس جميل جدا، إحساس لا تستطيع أن تصفه كلماتي، فكيف لي أن أصف ليلتي وأنا في حضن الطبيعة، شعور مريح يعاش ولا يحكى”.
هكذا يحاول محمد أسرغين، رحالة من مدينة فاس وصانع محتوى خاص بالسفر، أن يوصل لنا إحساس السفر بنمط الترحال والتخييم، نمط يتّبعه العديد من الشباب المغاربة اليوم بدلا من السفر التقليدي المعتاد. شباب اختاروا المشي الطويل بدلا من استعمال وسائل النقل، واستبدلوا غرف الفنادق بالخيام الصغيرة وزحمة المدن السياحية بهدوء المناطق الجبلية والساحلية النائية.
وفر نمط الترحال “Trip” فرصة ممتازة لعشاق السفر والرياضة، إذ أن هذا النمط يمزج بين الحركة كالمشي الطويل وتسلق الجبال وبين السياحة والسفر، كما يتيح زيارة مناطق نائية ما تزال تحتفظ بطبيعتها البكر وهدوئها. كما أنه يتماشى وجيب الشاب المغربي، إذ أن السفر بشكله التقليدي يستلزم ميزانية كبيرة لا يستطيع العديد من الشباب تحملها، خاصة في ظل ارتفاع الأسعار الذي يشهده المجال السياحي بعد جائحة كورونا، الأمر الذي يجذب العديد من الشباب لخوض غمار تجربة السفر والترحال.
تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلى…وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِد
تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ… وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد”
أبيات ألقاها الإمام الشافعي منذ قرون مضت وما يزال المسافر يترجى من السفر هذه الفوائد.
ألف محمد السفر بمفرده، فبعدما انشغل رفيقه بظروف الوظيفة، قرر الشاب أن يبدأ مساره في الترحال بشكل فردي. نمط جعله يجمع ما بين حبه للترحال وشغفه في صناعة المحتوى الرقمي، فأنشأ قناة على منصة يوتيوب، وبدأ في مشاركة يوميات سفره مع متابعيه، مشجعا إياهم على خوض هذه التجربة الفريدة من خلال تعريفهم بالعديد من المناطق الجبلية التي لا يسلط عليها الضوء إلا نادرا.
يفضل محمد الترحال والتخييم عوض السفر العادي، لما يقدمه من أحاسيس يستشعرها أثناء الترحال، يقول محمد ” ببساطة، الترحال بالنسبة لي يساعدك أن تسافر داخل نفسك، وتحاول استكشاف من تكون وماذا تريد، وكيف تود أن تعيش القادم من أيامك”. نفس الرأي تشاطره إياه حسناء عتيب، صحافية ورحالة، قائلة ” الترحال محاولة لإعادة برمجة روحي”.
“تَفَرُّجُ هَمٍّ..” عادة ما يرتبط السفر بالصحة النفسية، تؤكد دراسات علمية بأن السفر يعد يساعد في علاج العديد من الحالات النفسية المرتبطة بالقلق والكآبة. وأظهرت دراسة نشرت شهر ماي هذه السنة، نشرتها مجلة إدارة السياحة (Tourism Management) أن السفر يمكن أن يعتبر من العلاجات النفسية التي قد تكون مفيدة حتى للأشخاص الذين يعانون من الخرف. وأكد الباحثون الذين أنجزوا الدراسة المشار إليها سابقا، بأن العلاج بالسفر مفيد أيضا للذين يعانون من المشاكل الصحية العقلية الأخرى، وذلك من خلال تأثيره على نمط التفكير وتنمية الخبرات الحسية وتطوير التجارب النفسية الإيجابية. وأفادت بأن التحفيز الحسي والمعرفي مهم للصحة العقلية والنفسية، وأن السفر يعني بيئة جديدة وثقافة مختلفة.
وفي تصريح لهوامش، يعتبر وسام الزهار، أخصائي نفسي بمدينة أكادير،(يعتبر) السفر من بين أهم الركائز التي تساعد الشخص على التقليل من التوتر والتحرر من ضغوطات الحياة اليومية، إلا أن الأمر لا يمكن أن يعتبر علاجا بما يحمله مصطلح “العلاج” من حمولة علمية ونفسية، لكنه يوصي مرضاه بالسفر وتغيير الروتين قدر المستطاع.
وقال الزهار “إن السفر بنمط الترحال تجربة جيدة ومساعدة للمرضى خلال فترة العلاج النفسي، إذ أن الحركة والرياضات المختلفة التي يوفرها هذا النمط من السفر تجعل المريض في حالة نفسية جيدة وتسهل عملية التداوي”.
أما عن الترحال الفردي، فيؤكد المتحدث أنه يساعد بشدة على اكتشاف الذات وإعادة ترتيب الأفكار، إلا أنه يجب على الشخص خلق التوازن ما بين الترحال في مجموعات والترحال الفردي، وذلك لتوطيد العلاقات والاندماج مع أناس جدد.
“يستحيل أن تتقوى شخصيتي وأنا حبيسة أربعة جدران، فالفتاة يلزمها الخروج من تلك الفقاعة الوردية واستكشاف العالم الحقيقي، ومواجهة التحديات والعراقيل بغية فهم ماهية الحياة، وذاك بالضبط ما يحققه لي السفر والترحال”، هكذا تعبّر خديجة في لقاء مع منصة “هوامش”، الشابة ذات الخمسة والعشرين عاما عن دوافعها للسفر بنمط الترحال ، وترى بأن الشخصية القيادية تصقل حين تستشعر الفتاة المسؤولية والحرية مندمجتين، وهي معادلة تحققها تجربة الترحال بشكل مدهش.
في الآونة الأخيرة، يلاحظ إقبال الفتيات على نمط الترحال والتخييم وممارسة الرياضات الجبلية، ولم يعد الأمر مقتصرا على الرجال فحسب، ولا حتى على الأجانب الذين يزورون المغرب، بل بتنا نصادف فتيات مغربيات يحملن حقائب ظهر ضخمة وينطلقن بين الجبال وعلى جنبات الأودية، ينصبن الخيام ويستمتعن بنمط سفر خاص. نمط سفر -غالبا – لا تتقبله العائلات في المغرب، ما يشكل عائقا أمام رغبة العديد من الفتيات لبدء تجاربهن الخاصة.
عزيزة (55 سنة)، أستاذة التعليم الابتدائي من مدينة أكادير وأم لفتاتين، لا تتقبل سفر الفتيات والتخييم بدلا عن المبيت في الفنادق، وبنبرة حازمة تقول “لا أسمح لابنتي بالسفر والتخييم، فتلك الأمور لم نعتدها أبدا”. ترفض عزيزة الفكرة من الأساس وترى بأنها تمرد صارخ على العادات والتقاليد المتعارف عليها في المجتمع المغربي.
وترى عزيزة أنه لا توجد ضمانات لأمان لابنتها وهي تخيم في “الخلاء” على حد تعبيرها، وأنها ستكون معرضة لكل أنواع المضايقات أو ربما محاولة سرقة أو قتل في أسوأ الأحوال. وتضيف بنبرة حادة قائلة “اليوم تخاف على ولادك من البلايص اللي فيها الناس ماعسّاك الخلاوات.. الدنيا خيابت ولّات كتخلع”.
وبالرغم من تحفظ العديد من الأهالي خاصة الأمهات على فكرة سفر بناتهن بنمط الترحال، نجد أن بعض الأمهات هن من يشجعن بناتهن على خوض تجارب جديدة واكتشاف العالم.
فاطمة من مدينة بني ملال (52 سنة) أم وربة بيت، تعتقد أن “السفر بنمط الترحال هو رحلة استكشاف للذات وللعالم، وتؤكد أنه من واجب الآباء أن يشجعوا بناتهم على اكتشاف أنفسهن وتحدي الصعوبات والعراقيل وأن يمنحوهن هامشا من الحرية ليتحملن مسؤولية أنفسهن، ولعل السفر هو خير سبيل لذلك”.
وبالرغم من خوفها الطبيعي فإن فاطمة تشجع ابنتها على اختيار الرفقة الحسنة والأماكن الآمنة، تقول “حين كنت في سن الشباب، لم تسنح لي فرصة السفر بمفردي أبدا، وفجأة وجدت نفسي مثقلة بمسؤوليات الحياة الأسرية دون أن أعيش تجربة مختلفة أستكشف فيها نفسي، لهذا أشجع ابنتي على خوض التجربة شريطة أن تختار رفقة حسنة ومكانا آمنا”.
نفس الرأي تشاطره حسناء عتيب، والتي تؤكد بدورها على حق الفتاة في استكشاف محيطها والانفتاح على تجارب حياتية جديدة، شريطة أن تحمي نفسها وتتجه للأماكن المعروفة بالأمان، وأن تختار رفقة جيدة.
رحلة التخييم والترحال لمسافات طويلة لا تكون في العادة في مقدور الجميع، فالوعي بتفاصيل الرحلة وما يلزمها من معدات وتجهيزات، إضافة إلى المعرفة الجيدة بالطريق يجعل البعض يستصعب الفكرة. ولهذا اختار بعض الشباب التكلف بتنظيم رحلات متنوعة يوفرون من خلالها أهم لوازم السفر ويؤطرون بها المشاركين لخوض تجارب مميزة وممتعة.
منير، شاب في أواخر العشرينات، من مدينة أكادير، فكر أن يحول شغفه بالترحال إلى مصدر رزق له ولساكنة الدواوير والمناطق النائية التي يزورها، وهكذا لم يحتفظ بتجربة الترحال لنفسه فحسب، بل أبى إلا أن يشجع شبابا آخرين على اكتشاف جمالية الجهة وخوض تجربة جديدة مختلفة.
يحكي منير لهوامش “بدأت فكرة تأسيس مجموعة السفر والترحال مع صديق لي، فنحن نمارس الترحال منذ مدة طويلة، ونود أن نعرف بالمؤهلات الطبيعية والسياحة لجهة سوس، ونعلم بأن العديد من الشباب يتوقون للسفر إلى المناطق النائية إلا أنهم ربما لظروف العمل أو لقلة الخبرة يحتاجون رفقة، ونحن هنا نقدم الرفقة وننظم الرحلة من ألفها إلى يائها” ويضيف قائلا “الجميل أننا استطعنا أن نحول شغفنا إلى مصدر رزق لنا وللساكنة المضيافة لعلنا نرد لهم بعض الجميل”.
ما تزال العديد من المناطق بالمغرب محافظة على تقاليدها في استقبال الضيف وإكرامه، وما تزال أبواب المنازل تفتح أمام المسافر وعابر السبيل و”ضيف الله”، فالكرم ليس بغريب على المغاربة، وهذا ما يؤكده منير قائلا ” لقد استقبلتنا العديد من الأسر في منازلها، ورحبوا بنا أيما ترحاب بالرغم من كوننا غرباء، إلا أنهم أطعمونا من طعامهم وألبسونا من لباسهم ولم يبخلوا علينا بشيء رغم قلة ذات اليد”.
وهكذا بدأت فكرة إنشاء مجموعة لتنظيم الرحلات، واختار الشبان أن يقدموا لساكنة هاته المناطق فرصة لدخل إضافي، فالأهالي يفتحون بيوتهم للزوار ويقدمون لهم ما طاب من المأكولات التقليدية الخاصة بالمنطقة، ويرشدونهم لأهم المواقع السياحية ويسخّرون لهم الدواب لحمل أمتعتهم. خدمات يقدمها سكان المناطق الجبلية مقابل أسعار رمزية، إلا أنها تفتح لهم باب رزق مهم.
هل المغرب بلد مناسب للترحال؟ سؤال طرحناه على محمد أسرغين، صانع محتوى مغربي عن السفر. فأجابنا بنبرة تأكيد جازمة “المغرب بلد مناسب جدا لهذا النمط من السفر”، واسترسل قائلا “يكفي أن تلقي نظرة على صفحات السفر والترحال على وسائل التواصل الاجتماعي لتلاحظي حجم الشغف والإقبال على هذا النوع من السفر في المغرب، فبلدنا يزخر بمؤهلات طبيعية متميزة، وخاصة بسماحة أهله وكرمهم، مما يجعل تجربة الترحال محببة لدى العديد من الشباب اليوم”.
الكرم وحسن التعامل والضيافة من الأمور التي شجعت خديجة على خوض تجربة الترحال والتخييم، وبالرغم من الخوف الذي يعتريها قبل بدء أي رحلة، وهي تؤكد أن سفرها يمر دوما في ظروف جيدة، خاصة في المناطق الجبلية، إذ أن الأسر بالقرى ترحب جدا بالرحل بل تعرض عليهم المبيت والاستضافة بدون مقابل.
تقول خديجة وابتسامة تعلو محيّاها “باقي الخير فبلادنا وفناسها”، وتؤكد أنه وبالرغم من كونها فتاة، تسافر أحيانا وحدها وأحيانا أخرى برفقة مجموعة، إلا أنها لم تتعرض يوما لمضايقة أو استهجان من الساكنة، بل العكس، هذه الأخيرة هي من تقترح في غالب الأحيان الاستضافة وهي من تقدم يد العون.
يتميز المغرب بعادات وتقاليد خاصة به، شأنه شأن باقي بلدان العالم، غير أن العادات والأعراف تختلف من منطقة لأخرى. ولعل الانصهار في ثقافة المنطقة تظل من أهم المبادئ التي يركز عليها منير حين يرافق المشاركين في الرحلة، ويحثّهم أن يحترموا، قدر الإمكان، تقاليد الساكنة وأعرافهم من ملبس وطريقة عيش ومستوى اجتماعي، من أجل “تفادي أي صدمة ثقافية، نحاول أن نسطر بعض القواعد التي تتلاءم وعادات المنطقة وسكانها، حتى التفاصيل الصغيرة، وأؤكد بأن الساكنة ترحب جدا بالضيف شريطة أن يحترم ما هو متعارف عليه” يقول منير.
ويرى محمد أن مجال الترحال في المغرب يحتاج لرؤية جدية من قبل وزارة السياحة، ويقترح أن تجهز مخيمات مؤمّنة تفتح في وجه الرحّالة ومحبي استكشاف الطبيعة مقابل أسعار مناسبة، مخيمات توفر الأمن للرحّالة من جهة وتساهم في تنويع أنماط السفر من جهة أخرى، وذلك لجذب عدد أكبر من السياح ولتهيئة مناخ جديد للاستثمار.
ويضيف محمد قائلا “سيكون من الجيد أن تأخذ وزارة السياحة نمط الترحال بجدية، إذ أنه يساهم بشكل كبير في التعريف بالعديد من المناطق المميزة في المغرب، الأمر الذي سيفتح آفاقا جديدة للجميع ساكنة ورحّالة وكذلك البلاد”.
حالما تسدل الشمس خيوطها الذهبية، يستيقظ محمد على صوت زقزقة العصافير وخرير المياه وحفيف الشجر، مشهد أقرب إلى المشاهد التي نراها في الأفلام الرومانسية منه إلى الحقيقة، جرعة من السعادة يستشعرها الشاب الرحّالة حين يعد وجبة فطوره، المكونة عادة من الشاي والمكسرات، وينطلق بعدها ليستكمل رحلة السعادة كما يصفها.
لم يعد السفر اليوم فعلا من الرفاهية، بل أضحى ضرورة مؤكدة في ظل عصر السرعة وكمية الضغوطات النفسية التي يتعرض لها الشخص بشكل دائم، ولهذا وجد الشباب في السفر بنمط الترحال مبتغاهم ومرادهم في التخلص من تلك الضغوطات واستكشاف أماكن جديدة بما يتناسب مع رغباتهم وميزانياتهم.