الرئيسية

’’مرا وقادّة‘‘.. مجازة في القانون تنافس الفلاحين في دكّالة

في قرية "خميس متوح" التي تبعد بحوالي 50 كيلو مترا من مدينة الجديدة، ووسط الحقول الفلاحية الممتدة في المنطقة، أصرت "سهام رحمون" ذات 38 ربيعا، أن تقيم مشروعها الاستثنائي، وأن تكافح من أجل إنجاحه، بعد سبع سنوات على مغادرتها أسوار جامعة محمد الخامس بالرباط، وفي جيبها شهادة الإجازة في القانون الخاص.

محمد الحراق

تشتهر منطقة “خميس متوح”، المتواجدة بسهل دكالة، بتربية الغنم والأبقار، وإنتاج الحليب وزراعة الأعلاف وعلى رأسها “الفصّة” والبرسيم فضلا عن الخضر والفواكه مثل البطاطس والتين والعنب وغيرها.  

دخلت سهام غمار مجال الزراعة، وتربية المواشي تحديدا، سنة 2020، ولم يكن أمامها من خيار سوى استغلال الأرض التي تركها والدها بعد رحيله.

“توفي والدي وتركنا نحن 9 إخوة (7 بنات و2 أولاد)، كما ترك لنا 5 هكتارات من الأرض الفلاحية، لكنها ظلت دون استغلال لمدة زمنية طويلة بسبب ندرة مياه السقي، وغياب من يتكلف بأعمال الزراعة التي تتطلب تفرغا وصبرا وتضحيات” تقول سهام دون أن تخفي ارتباطها بالأرض. 

سهام رحمون تطعم أبقارها

ثم تضيف “كان ذلك بالنسبة لي تحديا كبيرا، أن أعيد الخضرة والحياة إلى الأرض التي تركها والدي. أخذت زمام المبادرة، رغم صعوبة المهمة”.. “كنت مدركة، تقول سهام، لهذه الصعوبات من البداية، فكانت   الخطوات الأولى، هي الزيادة في عمق البئر من أجل الوصول إلى مياه السقي الكافية لزراعة “الفصة”، وتوفير بعض الأعلاف، والبحث عن مصادر التمويل”.  

صراع من أجل التمويل

أدركت سهام، الأم لطفلين، أن القيام بمشروع ناجح لتربية الأبقار الحلوب بمواصفات عصرية، يتطلب أموالا كبيرة، وإرادة صلبة لمواجهة كل الاحتمالات التي قد تصادفها في بداية تجربتها في هذا المجال، الذي يبقى حكرا على الرجال بالمنطقة، فمجال أرض اليقطين الريفي الممتدة، يتميز بتقاليد وأعراف تجعل مهام المرأة محصورة في أشغال البيت. 

كان كل شيء بالنسبة لسهام يبدو صعبا في البداية، وسيطرت عليها أفكار الخسارة قبل الربح، شأنها شأن أي شاب حاصل على شواهد جامعية يلج عالم شغل يجهله تماما، كما حكت لهوامش، لكنها أصرت على التحدي ومواصلة السير دون أن تلتفت إلى الخلف مسنودة بزوجها خالد. 

طرقت سهام كل الأبواب بشجاعة من أجل الحصول على التمويل، وجربت العديد من برامج ومنصات تمويل الشباب حاملي المشاريع، من أجل تحقيق حلمها، لكنها اكتشفت أن واقع تمويل المشاريع الصغرى يختلف تماما عما يتم تسويقه من خطاب عبر وسائل الإعلام، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.

“كانت تجربة قاسية، عانيت فيها كثيرا، كما يعاني آلاف الشباب المغربي من أمثالي، ووضعت العديد من العراقيل أمامي من طرف مسؤولين كبار يفترض فيهم تسهيل المساطر أمام الشباب المعطل الذي يعاني من ويلات البطالة” تقول سهام. 

 وتسترسل “تم رفض ملفي لأتفه الأسباب، وأحيانا كانوا يشهرون في وجهي سلاح التماطل. خلت أنني أواجه الأشباح التي لا مصلحة لها أن تكون سهام كامرأة رائدة لهذا المشروع بالمنطقة”. 

جانب من المهام اليومية لسهام رحمون

“لم يبق أمامي من خيار، وأنا أدرك أن الرفض والمحسوبية والزبونية والبيروقراطية التي تعشش في الإدارة المغربية، كلها أساليب وضعت لاغتيال حلم الشباب، فاخترت طريق النضال لانتزاع حقي في تمويل المشروع الذي كلفني كثيرا من الوقت والجهد والدراسة” تقول سهام وهي تسرد تفاصيل قصتها لهوامش. 

انتظرت سهام 18 شهرا، كي تتم الموافقة على تمويل مشروعها المتعلق بتربية الأبقار بعد احتجاجها رفقة العديد من المعطلين حاملي المشاريع بالمنطقة، والذين بدورهم واجهوا نفس العراقيل، ليبدأ فصل آخر من تجربتها التي لا زالت متواصلة. 

التمويل لا يعني الربح

حصلت سهام على قرض لتمويل مشروعها في إطار برنامج انطلاقة المندمج لدعم وتمويل المقاولات الصغرى، والذي تم إطلاقه سنة 2019 لفائدة الشباب حاملي الشهادات المؤهلين وحاملي المشاريع، والمقاولين الذاتيين المسجلين في السجل الوطني، والمقاولات الصغيرة جدا بما في ذلك التجار والحرفيين، والفلاحين الأفراد والمزارعين، والتعاونيات، بهدف إطلاق دينامية جديدة لريادة الأعمال وتشجيع التشغيل الذاتي والمقاولات الناشئة، في سياق التعافي من تداعيات جائحة كورونا.

“حصولي على الدعم والتمويل والشروع في العمل لا يعني بداية جني الأرباح، فكل همي تحول إلى المقاومة من أجل بقاء المشروع على قيد الحياة بأي ثمن” تؤكد سهام.

ثم تسترسل في الحديث “كانت الظرفية التي شرعت فيها في العمل جد صعبة، بسبب غلاء الأعلاف التي ارتفعت بأزيد من 50 في المائة، وكذا الأدوية البيطرية، والإرهاق والأفق المجهول، وولوج عالم جديد وتداعيات كورونا ” تقول محدثتناوهي تتذكر اللحظات القاسية التي عاشتها. 

أحد حقول الفصة التي زرعتها سهام

لكن سهام، ظلت متشبثة بخيوط النجاح رغم الصعاب التي واجهتها في البداية، كان أكثرها تأثيرا على معنوياتها، وفاة ثلاث بقرات من قطيعها المتكون من 10 بقرات حلوب من سلالة “الهولشتاين” وواحدة من سلالة “موبيليار”، بالإضافة إلى الإرهاق، حيث تضطر إلى قطع حوالي 100 كيلومتر إيابا وذهابا من مدينة الجديدة إلى خميس متوح، ثم العودة إلى الجديدة، حيث تواصل صراعها اليومي على العديد من الجبهات من أجل إنجاح مشروعها كما خططت له. 

كفاح يومي 

تستيقظ سهام باكرا، كبدويات خميس متوح، وتحرص على احترام مواعيد تقديم الوجبات لأبقارها بدقة والتزام تامّين دون أن تغفل عيناها على ما يستوجبه الإسطبل من عناية ونظافة، ومراقبة الحالة الصحية للأبقار والأعلاف، وكل ما يجري حول المكان من تفاصيل، بروح مرحة وخفّة ونشاط.

يبتدئ برنامجها اليومي كالمعتاد، مع إطلالة الصباح، بتنظيف الإسطبل، ثم عملية الحلب، وإرضاع صغار الأبقار، وإعداد وتقديم الأعلاف للأبقار، وتسجيل الملاحظات، كجندي يتفقد كتيبته، ويحرص على انضباط عناصرها، فمظهرها ولباسها وحركاتها توحي بأن سهام لن يهدأ لها بال حتى تنهي واجباتها اليومية. 

“تعودت على القيام بالأعمال الفلاحية، وخصوصا تربية الأبقار، وصار ذلك جزء من حياتي، وآمنت أن النتائج تأتي بالعمل الجاد والالتزام والصبر” تقول سهام، وهي تتطلع إلى المستقبل بكل تفاؤل. 

ثم تضيف ” تربية الأبقار الحلوب من سلالة “الهولشتاين” و”موبيليار” عمل متعب جدا، وهي تتطلب عناية خاصة ومراقبة وتتبّعا لأحوالها الصحية باستمرار، لذلك أحرص على البقاء بالقرب منها”.

استفادت سهام كثيرا من تكوين في مجال البيطرة، فحصولها على دبلوم مساعد بيطري، انعكس على تربيتها للأبقار الحلوب، وهي ترى أن مواكبة مشروعها تتطلب معرفة بالمجال، ومراكمة الخبرات من أجل تحقيق النجاح.

لم تتوقف طموحات سهام عند حدود تربية الأبقار الحلوب، بل أسّست تعاونية لتسويق الحليب والمنتوجات الفلاحية أطلقت عليها أسم “التعاونية النسوية فيض الصداقة”، وهي التعاونية النسوية الثانية في دائرة سيدي إسماعيل، والوحيدة بخميس متوح، غير أن هذه التجربة اصطدمت بالكثير من العراقيل والصعوبات كما تحكي سهام. 

جانب من المهام اليومية لسهام رحمون

“لم يخلُ تأسيسي لتعاونية لجمع وتسويق الحليب من مشاكل وصعوبات، اصطدمت بأناس يحتكرون هذا النشاط بالمنطقة منذ السبعينيات من القرن الماضي، لذلك سارعوا لمضايقتي بكل الوسائل”. تقول سهام.

ثم تضيف “أحسوا أن هذه الوافدة الجديدة على الدوار تشكل خطرا عليهم وعلى مصالحهم، وحاربوني بكل الوسائل، لكنّي تصدّيت لهم بحزم وأثبتت أنني امرأة لا يمكنها الاستسلام”.

“مرا وقادّة”

استطاعت سهام أن تكسر الصورة النمطية للمجتمع القروي الدكالي للمرأة التي تعتبر أن مكانها هو البيت، وتنحصر أدوارها الاجتماعية في تربية الأولاد وتدبير شؤون المنزل من تنظيف وطهي، وتأمين حاجيات المنزل، دون التقرير في المصير الاقتصادي للأسرة الذي ينفرد به عادة الرجل.

“كانوا يعتقدون أنني حمقاء، لأنني ولجت عالم تربية الأبقار الحلوب، وهو عمل مضن يمارسه فقط الرجال في المنطقة، ويتطلب دراية ورأسمالا كبيرا، لكنّي أثبتت للجميع أنني استثناء في منطقتي” تقول سهام وهي تطلق ابتسامة عريضة. 

ثم تضيف “هناك من كان يتساءل كيف لامرأة جامعية وقادمة من المدينة إلى القرية أن تقوم بأعمال الفلاحة؟ وهناك من كان يرى في دخولي لهذا العالم مجرد نزهة، وهناك من أشفق على حالي، وهناك من رأى في قدوة، شوفو لالاكم (يقولون)، لكن الصورة اليوم اتضحت لهم جليا، وأكدت أن المرأة لا تختلف عن الرجل، الفروق في أدمغة الناس فقط”. تقول سهام. 

وتسترسل في الحديث “كلما التقيت بنسوة الدوار يعبرن لي عن سعادتهن، ويقلن لي: سهام امرأة حرة شرّفت نساء المنطقة، لقد أصبحت قدوة بالنسبة إليهن”.

أصبحت سهام مرجعا مهما للعديد من الفلاحين بالمنطقة رغم ولوجها الحديث لهذا الميدان، وأصبحت تقدم النصح والاستشارة لهم في مجال البيطرة، وتربية الأبقار الحلوب، وطبيعة الأعلاف، ومستقبل القطاع ومشاكله، لكن طموحها لا زال جامحا من أجل تحقيق النجاح في المستقبل، فلا نجاح بدون معاناة كما تقول سهام.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram