سامي صبير
يرتفع عدد الزوار الوافدين إلى مراكش خلال عطلة الصيف، مما يشكل فرصة لزيادة رواج منتوجات الصناعة التقليدية، فالسياح يحبون العودة إلى منازلهم وبين أيديهم تذكارات وتحف من الموروث التقليدي المغربي، من بينها أشكال فنية نحاسية وفضية أو فخارية أو خشبية، قطع تلخص حكاية حضارة وتراث عبَر آلاف السنين كي يصل إلينا.
لكن خلف جمال القطع الفنية والمنحوتات والإحصائيات يكمن وجه آخر للحكاية، تنكشف قصص مؤثرة ويلوح مصير مأساوي في الأفق، وذلك بعد أن بدأت تستولي آلات الليزر على وظائف آلاف الصناع.
حسب الإحصائيات الرسمية يشغّل قطاع الصناعة التقليدية بجهة مراكش أكثر من 130 ألف شخص، فكيف يواجه هؤلاء الحرفيون الجانب السلبي للتطور التكنولوجي؟ وإلى متى سيصمدون قبل أن ينتهي بهم الأمر بدون عمل؟ وما الرؤية المقترحة لمنع إزاحة التكنولوجيا مئات العاملين بهذا القطاع؟
هوامش سلكت دروب المدينة العتيقة، وصولا إلى مجمّع الصناعة التقليدية بحي جنان بنشݣرة، للبحث عن أولى الإجابات وتجميع أطراف القصة. في ذلك المركّب تبدأ عملية تحويل المواد الأولية إلى أشكال فنية باعتماد تقنيات يدوية تقليدية، وهناك التقينا عادل الماحي، كي نرافقه إلى الورشة من أجل معاينة الواقع الذي يعيشه، فالورشة التي لا تتجاوز مساحتها 4 أمتار مربعة، هي في نفس الوقت محل سكنه، حكى لنا عن مشاكله الأسرية وكيف تسبب تدهور حرفته في انهيار زواجه، بعد أن رفعت زوجته دعوى قضائية طلبا للطلاق.
يسدد عادل 600 درهم مقابل إيجار محل السكن/ الورشة، بالإضافة إلى مبلغ 1000 درهم مقابل إيجار البيت الذي تقطنه زوجته وابنته، بينما لا يتجاوز مدخوله حاليا 70 درهما مقابل 6 ساعات من العمل في اليوم، وهو عرض غير متاح دائما، حيث يقضي معظم الأيام بدون عمل.
وإلى جانب عادل تعرفنا على عبد اللطيف الذي أمضى ما يقارب ثلاثة عقود في حرفة “السرّوج” أو “التخرام”، ويقصد به النقش على صفائح النحاس باستخدام أدوات تقليدية، كما التقينا عمر ثم مهدي الذي تخرج من معهد للتكوين المهني للحرف.
على الجهة اليسرى من الزقاق الضيق، غير بعيد عن مدخل المركّب، يقع محل يشتغل فيه عبد اللطيف مع لحام نحاس وحرفيين آخرين، يجلس عبد اللطيف إلى طاولته منشغلا بعمله بينما ينتابه الخوف في أن يأتي يوم تزيحه آلات الليزر عن مقعده ويصبح عاطلا، ثم ينتهي به الأمر متسولا لإعالة أسرته، خصوصا بعد أن لامس تراجع الطلب على ما ينتجه وارتفاع التكلفة بسبب الزيادة التي عرفتها المواد الأولية.
يعتبر عبد اللطيف نفسه أحد ضحايا سياسة السبعينات والثمانينات، حيث “كانوا يدفعونك إلى تعلم الحرفة بدل الذهاب إلى المدرسة، لأنه في ذلك الوقت كان يعد الحرفي ذا شأن مقارنة مع الموظف الحكومي، إلى درجة أنه كان إذا تقدم شخص لخطبة فتاة وكان يعمل في الوظيفة العمومية يتم رفضه بعكس الصانع، أما اليوم فقد انقلبت الآية وأضحى الصانع التقليدي مهددا بانقطاع مورد رزقه”، يقول محدثنا ويضيف “نحن الآن بين المطرقة والسندان، مطرقة ارتفاع أسعار المواد الأولية وسندان الآلات”.
ويصف عبد اللطيف وزملاؤه آلات الليزر بـ”الغولة”، للدلالة على الكابوس الذي أضحى يشغل باله، فبعد أن قضى أزيد من 31 سنة يزاول نفس الحرفة، يواجه اليوم مصيرا مأساويا إثر شروع عدد من الشركات والممولين أو كما يفضل الحرفيون بالمدينة العتيقة بمراكش وفاس الإصطلاح عليهم بـ(موالين الشكارة)، في تبني واستيراد آلات الليزر، وتوظيفها للرفع من الانتاج وتقليص التكلفة.
حسب تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي – دافوس 2016، فقد أضحى الآلاف من الصناع التقليديين مهددين بالبطالة والزوال، مقابل فسح المجال لتقنيي التكنولوجيا وعلوم الحاسوب ولكن بأعداد أقل بكثير، حيث توقع المنتدى في تقريره حول تأثير الثورة الصناعية الرابعة على الوظائف، أن يتم إلغاء 7.1 مليون وظيفة في ظرف خمسة سنوات، مقابل إحداث 2 مليون وظيفة جديدة، وتعتبر الصناعة التقليدية واحدة من القطاعات التي تشملها هذه التحولات.
قصة عمر هي واحدة من القصص التي تعكس الواقع الدرامي لحرفة “السرّوج” في مواجهة التطور التكنولوجي، فبعد عشرين سنة من العمل كحرفي اضطر إلى تغيير حرفته واللجوء إلى بيع الأحذية على الرصيف، ليبدأ مسلسل مواجهة أخرى ولكن هذه المرة الطرف الأخر هو السلطات المحلية التي تشن حملات على “الفرّاشة” لتحرير الملك العمومي.
ويرى عمر أنه رغم خسارة مورد رزقه، إلا أنه يعتبر نفسه أفضل حالا من صديقه مهدي الذي أمضى سنتين في التكوين المهني للحرف التقليدية، ليتخرج بعد ذلك ويصدمه واقع تطغى عليه البطالة، بعدما تضاعفت آلات الليزر في البلاد.
بوجه مبتسم استقبلنا مهدي، شاب عشريني انقطع على الدراسة في السنة الثالثة إعدادي، وانتقل إلى دراسة حرفة النحاس بجمعية محمد الخامس للتضامن بفاس، ضمن برنامج تكوين الشباب الذين ينحدرون من الأوساط الفقيرة والقروية، وبعد قضائه سنتين تمكن من الحصول على دبلوم وشد الرحال إلى مراكش، وهو يرى فيه جواز ولوج لسوق الشغل، قبل أن يكتشف أن السواد الأعظم من الصناع يفقدون مصدر رزقهم وأن مصيره البطالة.
حسب مهدي يوجد 6 ملاك لآلات الليزر في المغرب إلى حد الآن، ولكن رغم عددهم القليل فإنهم يستحوذون على أكبر نسبة من طلبات السوق، وذلك لأن الآلات تنجز ما ينجزه 100 حرفي في نفس الوقت، مضيفا، أن “هذا يعني توفير الربح لستة أشخاص مقابل إقصاء آلاف الصناع التقليديين.
ويرى مهدي أن الأمر لا يتعلق فقط بحرفة النحاس، وإنما يمس أيضا حرفة النجارة والحدادة، حيث سيحل الليزر محل “المربوع” والمطرقة، “بينما كان من المفترض أن تستخدم هذه الآلات في المجسمات العملاقة وليس في القطع الصغيرة التي يعيش منها الحرفي” يقول محدثنا.
يكن هؤلاء الحرفيون كعبد اللطيف، إحتراما كبيرا للصناعة التقليدية، وتعويضها بمنتوجات من صنع الآلات بالنسبة لهم احتيال على السياح، ولكن رغم كل ما يكنونه للحرفة إلا أنه لم يشفع لهم أو يقهم تغول المستثمرين (موالين الشكارة).
بنظرة حزينة يقول عبد اللطيف إن “التجار صاروا يطلبون إنجاز العمل بمقابل زهيد بسبب نقص فرص العمل، لذلك كل طلب يحصل عليه الحرفي هو فرصة يقبلها بأي سعر أو سيتلقفها حرفي أخر لن يمانع في قبول المبلغ، بينما تظل الآلات بديلا عنهم جميعا”.
ويضيف المتحدث أنه رغم وجود القوانين التي يفترض أن تحمي الحرفي مثل شارة الجودة الوطنية للصناعة التقليدية، والتي تميز المنتوج التقليدي عن المزيف، إلا أنها تبقى مجرد حبر على ورق وغير كافية، مؤكدا أنه بالنظر إلى ما يحدث اليوم لم يعد هناك وقت طويل قبل أن يختفي “السراج” وتختفي معه حرفة “التخرام”، وذلك لكون آلات الليزر تمكن أصحابها من الربح السريع، وانتشارها في تزايد مستمر.
وخلص عبد اللطيف إلى أن السبب الرئيسي في وضعهم هو غياب المراقبة من طرف الدولة، وعدم اهتمام المسؤولين عن التهديد الذي تشكله الآلات للقمة عيش مجموعة من الصناع التقليدين، مضيفا بأن المؤسسات المسؤولة على القطاع في واد والصناع في واد آخر.
وفق تقرير المنتدى الإقتصادي العالمي – دافوس، يتوقع أن تؤثر الثورة الصناعية الرابعة على نحو 140 مليون وظيفة في العالم بمختلف القطاعات سنة 2025، ويتفق الباحثون أن الإنسان هو المسؤول عن تحديد مسار تأثيرها، فالتكنولوجيا والتطور الرقمي قد يشكلان سلاحا ذا حدين.