ياسين بولاكتاف
في سياق إعلان حالة الطوارئ المائية في المغرب، خلال هذه السنة، نظرا للحقبة الغير مسبوقة لندرته ومعضلة الجفاف الذي ضرب البلاد في السنوات الأخيرة ، تعود هوامش إلى كتاب صادر سنة 1999 عن عن كلية عين الشق لإلقاء الضوء على تاريخ الماء في المغرب.
عن الكتاب
احتضنت جامعة الحسن الثاني، قبل أزيد من عقدين، أعمال ندوة هامة حول “الماء في تاريخ المغرب”، الندوة التي عقدت أيام 10 و11 و12 دجنبر 1999، عرفت مداخلات قيّمة أثارت قضايا هامة لا تزال تحتفظ براهنيتها، لذلك تقرر جمعها في كتاب لتشكل مرجعا للباحثين والمهتمين.يتناول كتاب “الماء في تاريخ الغرب” المتوسط الحجم (232 صفحة)، قضايا الماء في مصادر تاريخ المغرب وتقنيات استغلاله وتوزيعه، وبعض القضايا المرتبطة بالسياسة المائية في تاريخ المغرب.
وتكمن الأهمية العلمية والمنهجية للكتاب، الصادر من طرف كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، في تنوع المواضيع التي تطرق إليها الباحثون، والتي أبرزت الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية من تاريخ المغرب ذات الارتباط بالماء، وبالطبع لم يكن ذلك ممكنا لولا توظيفهم لمختلف المصادر والوثائق والمراجع المرتبطة بالموضوع.
قدسية الماء عند الأفارقة
في ورقته البحثية، رصد الأستاذ عبد العزيز بلفايدة مظاهر التقديس الذي حظي به الماء من قبل الأفارقة قديما، لذلك كانوا يحرصون على تقديم القرابين إلى الآلهة. وقال في ورقته البحثية إن الأفارقة – من بينهم أهل المغرب- قدسوا المياه لكونها مرتبطة بالزراعة، ومن الطبيعي أن تكون مقدسة خاصة في الأماكن الجافة. وربطت بعض الثقافات، الآلهة بالمياه العذبة، فأغلب النقوش، حسب بلفايدة، توجد قرب المصادر المائية والحامات، للأهمية التي يكتسيها الماء في حياتهم وأنشطتهم الاقتصادية.
وتناول بلفايدة معتقدات الناس المتعلقة بدور الماء في الاستشفاء ومعالجة الأمراض الجلدية، وهو الأمر الذي دفعهم إلى تشييد مجموعة من المنشآت سميت “الحامات”. ويوجد هذا النوع من المباني في هوامش المدن، كحامة موريطانيا الطنجية شمال وليلي، التي كانت تحتضن المرضى والمتعبدين الوافدين من مناطق مختلفة.
كماأثارت ورقة بلفايدة بنوع من التفصيل التقنيات والإجراءات القانونية والمالية التي اعتمدها الأفارقة في سبيل تزويد المدن والمناطق بالماء الصالح للشرب، أو لاستعمالات أخرى في الري والاستحمام على الخصوص، ويبرز هذا بجلاء الدور الذي كان يلعبه الماء في الحياة اليومية لإنسان شمال افريقيا وقتئذ.
دور الماء في رسم الخرائط القبلية والسكانية
أما الباحث محمد لمراني علوي فقد تتبع أصداء المشاكل التي كان يعاني منها المغاربة بسبب ندرة المياه ودور هذه المادة الحيوية في إعادة رسم الخريطة القبلية والسكانية، بفعل تحركات الناس من مجال إلى آخر، بحثا عن منابع المياه والسواقي والأنهار.
وقد كان للماء دور هام في ما نراه اليوم من توزيع مجالي خاصة في العالم القروي، وخاصة تلك التجمعات السكانية القبلية التي تقع على جنبات الأودية والأنهار.
كما رصد الباحث بعض الإجراءات والأحكام التشريعية التي تضمنتها الأعراف المحلية من أجل تدبير محكم لشؤون الماء وضمان استفادة الجميع، قبل أن يتطرق إلى الأساليب والتقنيات المعتمدة في استغلال المياه الباطنية والسطحية وتوزيعها على الأراضي والمناطق، وفي الأخير عرّج على بعض المشاكل المرتبطة بالماء، سواء فيما يتعلق بحيازة وملكية المياه والأحقية في الاستفادة أو كنس السواقي والأنهار للزيادة من صبيب المياه لاتجاه على حساب اتجاه آخر.
وكان لذلك أثر كبير على مجال تارودانت، وهذا ما أكده مصطفى بنعلة في ورقته البحثية، التي جاءت لتعالج قضية الماء في مجال تارودانت خلال العصر السعدي انطلاقا من الحوالات الحبسية.
وأشار بنعلة في البداية إلى الأهمية السياسية والاقتصادية لمدينة تارودانت بالنسبة للسعديين، وبالتالي فمن الطبيعي أن يولي الحكام الأوائل أهمية قصوى في تزويد الحضرة المحمدية بالمياه، وهذا ما تكشفه مجموعة من السجلات الوقفية.
وحرص السعديون على تحبيس المياه للحد من الصراعات التي تطفو إلى السطح بين الفينة والأخرى، فضلا عن المجهودات التي بذلوها في سبيل إحياء العيون المندثرة، وإعمال إجراءات استغلال المياه عبر ما كان يسمى بـ نظام “النوبات”، والذي سيطبع فيما بعد العادات المغربية في استغلال المياه بالتناوب، وكان يعرف بنظام “ديوان مجرى الساقية” منذ عهد محمد الشيخ في العصر المنصوري، وكان يهدف إلى ضبط عملية كنس السواقي وعدم تزويد الخواص بالمياه إلى إذا فضل شيء منها.
التوزيع التاريخي للماء بواحة درعة
استند الأستاذ أحمد البوزيدي إلى الوثائق المحلية، للتعرف على كيفية توزيع الماء في واحات درعة والمشاكل التي تطرأ بين القبائل وانعكاسها على أنظمة الري، حيث تتبع الأساليب والتقنيات المعتمدة للاستفادة من مياه الأودية الكبرى (درعة، زيز،…)، وقال في ورقته البحثية إن هذه الأودية لم تكن تعرف بانتظام جريانها، لهذا قام السكان المحليون بإعمال نظام شبكة من السواقي التقليدية، وهي قديمة جدا تعود إلى عهد القبائل الزناتية.
كما تحدث البوزيدي عن المؤسسات الاجتماعية والمواثيق العرفية التي بلورها الإنسان الواحي (الذي يقطن بالواحات) لتدبير شؤون الماء، حيث كانت تنقسم ملكية الماء في واحة درعة إلى ملكية فردية وملكية جماعية وملكية مخزنية، ومع ذلك لم تستطع هذه الإجراءات الحد من الصراعات القبلية التي تظهر حول ملكية الماء.
الماء منذ بداية القرن الثامن
وجاء بحث الأستاذ الموساوي العجلاوي للحديث عن تقنيات استخراج المياه الباطنية في مناجم الفضة بالمغرب (8م-13م)، حيث تمكن الإنسان، خلال هذه الفترة، من تكييفها مع معطياته الطبوغرافية، وتتجلى هذه التقنيات حسب ما أفصحت عنه المصادر المعتمدة في الدواليب والخطارات التي استغلت في كل من منجم كندر وتودغة وايمضر وعوام، وذكر الباحث أن عملية الحفر تطلبت مجهودات كبيرة للوصول الى اعماق 200 متر في جبل عوام و150 متر في كندر.
أما الباحث أحمد مزيان فقد تطرق لقضية استغلال الماء في واحة فكيك، حيث فصل كثيرا في ظروف وسياقات ظهور أشكال وتقنيات الاستغلال، مرورا بالتأثيرات الكبيرة للعوامل الطبيعية في دفع الإنسان إلى تطويعها في سبيل الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، كما ذكر المتحدث أنظمة السقي وقارنها بأنظمة السقي في مجالات أخرى في محاولة منه لكشف عوامل التأثر والتأثير.
وخصص الأستاذ محمد حبيدة مداخلته للحديث عن تقنيات وتنظيم الماء في المغرب خلال القرنين 17 و18، فحاول أن يميز خصوصيات كل مجال من مجالات المغرب، وحسب المتدخل، فإن التقنيات المستعملة في المناطق الجبلية ليست هي نفسها المستعملة في المناطق السهلية أو في المناطق الصحراوية، فكل مجال يبدع الأشكال التي تتكيف مع طبيعة المجال وظروفه.
وتطرق الأستاذ صالح شكاك إلى التواجد الفرنسي بمنطقة واد زم وتأثيره في تفكيك الأنظمة المعتمدة في مجال واد زم قبل الحماية، واضعا شروطا وقوانين جديدة لمزاحمة المحليين في استغلال الماء.
وحاول الأستاذ أحمد سراج أن يؤصل لظاهرة استمرارية الديانات المائية القديمة بمغرب العصر الوسيط، حيث شكل الماء محورا أساسيا في الفضاء الديني والعقائدي للأمازيغ، نظرا للمكانة المتميزة التي يكتسيها في أذهانهم. وقد تتبع المتدخل بعض التقاليد والعادات التي انتشرت في مغرب العصر الوسيط، وتوقف عند مجموعة من الحيوانات التي حظيت بالتقديس ذات الارتباط بالماء، ومن بين هذه الحيوانات يذكر الكبش والثعبان والثور.
أما الأستاذ محمد فتحة فقد جعل من نازلة مصمودة بفاس وثيقة مرجعية للحديث عن بعض النزاعات حول الماء، حيث أكد أن هذه النازلة تتوفر على معلومات تعكس الخصومات والنزاعات الكثيرة حول مياه الشرب والسقي، ولعل من أهم أسباب هذه الخصومات هو محاولة الذين يتواجدون في الأعلى الاستفادة من أكبر النسب على حساب الذين يتواجد بالأسفل، ضاربين بعرض الحائط الأعراف التي تحاول التقسيم العادل للماء، كما توقف عند بعض النزاعات الأخرى المرتبطة بالحيازة وبالتوزيع.
دور الماء في حسم الحروب والصراعات
الأستاذ محمد استيتو عمد إلى دراسة علاقة الماء بالحرب في تاريخ المغرب، وكان غرضه الأساسي الوقوف عند الدور الذي لعبه الماء في حسم الكثير من الحروب والصراعات العسكرية، فحاول رصد وتتبع بعض الخطط العسكرية التي وضعت الماء في الحسبان، حيث أشار في هذا الصدد إلى تحاشي البعض خوض المعارك في فصل الشتاء لصعوبة التحرك بسبب الثلوج والأمطار.
وسعى بوجمعة رويان إلى تبيان الدور السلبي الذي لعبه الماء خلال فترة الحماية الفرنسية، فقد كان سببا في نقل بعض الأمراض لاحتوائه على مكروبات، وأشار إلى مجموعة من القنوات والصهاريج والعيون التي كانت تتعرض للتلوث بسبب التصبين والاغتسال فيها، كما رصد بعض المجهودات التي بذلتها الإدارة الفرنسية لتعقيم الماء.
وتطرق محمد معروف الدفالي، في مداخلته، إلى الأضرار التي لحقت السكان جراء سيطرة الإدارة الفرنسية على جزء من مياه بوفكران ومياه وادي فاس، وهو ما أثار حفيظة الحركة الوطنية المغربية لتجعل من “بوفكران” محطات عملها، حيث شكل الماء رمزا للدفاع عن الحق وعن الوجود، ورصد المتدخل مراحل نضالها واحتجاجها.
الكتاب هو محاولة لتغطية جانب من الفراغ البيبلوغرافي في قضايا الماء، كما يساهم في سيرورة التراكم العلمي والبحثي الذي لا يزال في بداية طريقه، أملا في الوصول إلى المسعى الذي هو كتابة تاريخ المغرب في شموليته بشكل توليفي، وبالطبع رغم هذه المجهودات العلمية، التي حاولت مقاربة الموضوع من جوانب عدة، فإنه من الصعب الإحاطة بالموضوع في شموليته وهو ما يفتح للباحثين والباحثات آفاقا جديدة انطلاقا من الأسئلة الإشكالية التي طرحها الأساتذة في ثنايا أوراقهم البحثية.