حسناء عتيب
الساعة تشير إلى الثامنة مساء، وشمس الرباط لم تغرب بعد. يلتمس بلال طريقه بين طاولات المقهى مستندا إلى ذراع صديقه، وهو يعتمر خوذة أشبه بخوذات رواد الفضاء. تحت الخوذة يلبس نظارات سوداء، وهو لا يمر دون أن يثير الانتباه. حين وصل إلى حيث نجلس ألقى السلام وعرف بنفسه بدون مقدمات قائلا: “أنا بلال طفل القمر”.
أطفال القمر هم المصابون بمرض نادر يعرفه الأطباء باسم “جفاف الجلد المصطبغ” (Xeroderma pigmentosum). هوامش التقت أطفال القمر، استمعت إليهم لتنقل بعضا من واقعهم؛ واقعٌ يصبح فيه التنمر والتجاهل على حد سواء أقسى من أشعة الشمس.
رغم أن عمره 21 سنة، لم يلج بلال أبداً المدرسة. بالاضافة إلى عوز الوالدين، شكّل تنمر الأقران عائقاً رئيسيا أمامه. منذ أن بدأ وعيه يتفتح على العالم، بدأت معاناته مع كلام أقرانه وسلوكهم، حتى إن بعضا منهم كان يتجنب مصافحته خوفاً من “العدوى”، لاعتقادهم أنه مرض جلدي يشبه الجَرب، وهو ما أرغمه على التزام البيت و”اعتزال” الحياة.
لم تخل حياة بلال من وقائع مؤلمة، يحكي لمنصة هوامش، بألم، حادثة وقعت بمستشفى قبل سنوات وهو لا يزال طفلا “الممرض الذي كان يعالجني آلمني بعض الشيء فصرخت من شدة الألم، ودون أن استوعب الأمر حتى، بادرني بصفعة لا زال يتردد صداها في ذاكرتي حتى يومنا هذا”.
نقطة الضوء التي ظهرت في حياة بلال جلبها أحمد زينون، رئيس جمعية “صوت القمر”،التي تهتم بالمصابين بهذا المرض.
شكلت زيارات زينون الذي زوده بالمراهم والقناع الواقي تغيرا في حياة بلال الذي بدأ بإنشاء حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، مكنته من التعرف على أصدقاء جدد، واسترجاع ثقته بنفسه.
يستطيع بلال الآن الخروج من البيت، يضع المراهم ويرتدي لباسا خاصا، لكن يفضل أن يفعل ذلك في وقت تخف فيه حرارة وقوة أشعة الشمس.
رغم منظره “الغريب” وهو يرتدي خوذة مصممة خصيصا لحمايته من أشعة الشمس، لم يعد بلال يتردد في الظهور في الفضاءات العامة.
بابتسامة عريضة، تستقبلنا شيماء (23 سنة)، رفقة والديها وشقيقتها بمنزل الأسرة بمدينة فاس. حرارة الاستقبال خففت من حرارة المدينة، ومنحت للقاء نكهة خاصة.
منذ أن كان عمرها سنتين انطلقت معركة شيماء وعائلتها مع هذا المرض النادر. كان تخمين الأسرة في البداية أن الأمر مجرد حساسية يمكن علاجها.
تطور المرض وانتشار التصبغات والبقع السوداء على وجه وجسد شيماء، كلما تعرضت لأشعة الشمس، جعل العائلة تتجه إلى الطبيب الذي أبلغهم أن الطفلة تعاني مرضاً نادراً، يتطلب حجراً ذاتياً مدى الحياة، ولباسا خاصا عند الخروج.
شأن بلال، عانت شيماء من التنمر ونظرات الاستغراب والريبة. “تعرضتُ للتنمر حتى من طرف أطباء، لذا أجده عاديا من بقية الناس”، تقول شيماء دون أن تفارق الابتسامة وجهها.
وتضيف “أذكر مرة أنني ذهبت للكشف عن حالتي، فقال لي الطبيب متقززا: ‘أوووه ما هذا؟!’. ولطالما التقطت أذناي همسات الناس حول شكلي لكنني لم أعد أهتم”.
التنمر الذي تعرضت له شيماء دفعها بدورها إلى الانكفاء في المنزل. أضيفت قساوة العزلة إلى المرض وهو ما خلف ضغطا نفسيا لم تتجاوزه بسهولة. “أيامي تمر متشابهة، أقضيها في المنزل بشكل عادي. في السابق كنت أعاني من الاكتئاب والهلع الشديد، كنت عصبية جدا، أي كلمة أو ردة فعل أفسرها على حسب مزاجي” تقول محدثتنا.
الوضع النفسي الصعب جعلها لا ترى غير الموت يحيط بها. “كنت أكرر عليهم في المنزل و في كل مرة نفس اللازمة: “غدا سأموت، وترتاحون مني”، تقول شيماء وتواصل “بعد حضوري المتكرر جنازات لأفراد من العائلة من بينهن سيدة كانت في كامل صحتها إلى أن وافتها المنية، اقتنعت أن لكل أجل كتاب”.
يعتبر مرض جفاف الجلد المصطبغ، من الأمراض النادرة والتي تكون غالبا بمثابة نتاج فعلي لنقص في الحمض النووي ونقص الأكسيجين المسؤوول عن معالجة الطفرات الناتجة عن اختراق الأشعة فوق البنفسجية للجلد، وتكمن خطورة هذا المرض في أن المصاب به مهدد بالإصابة بالسرطان بدرجة كبيرة.
اكُتشف هذا المرض الوراثي النادر لأول مرة عام 1870، بعد أن لاحظ الطبيب موريتز كابوسي، الذي عاش في مدينة فيينا؛ ظهور بقع أشبه بالنمش على جلود أطفال تعرضوا لأشعة الشمس، قبل أن تتطور هذه البقع خلال سنوات قليلة إلى تقرحات قاتلة.
وتشير التقديرات إلى أنه يُصيب حوالي واحد من كل مليون شخص في الولايات المتحدة وأوروبا، وينتشر بصورة أكثر شيوعًا في اليابان وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ولا تتوفر معطيات وإحصائيات بشأن انتشاره في المغرب.
ويؤثر هذا الاضطراب على واحد من كل عشرة آلاف شخص في شمال إفريقيا – أي أكثر من 10 أضعاف المعدل في أوروبا وحوالي 100 ضعف المعدل في الولايات المتحدة، وفقًا للدكتور كينيث كرايمر، باحث مرض إكس بي في المعاهد الوطنية الأمريكية للصحة.
وترى سعاد البارودي، أخصائية في الأمراض الجلدية لدى الأطفال، أن “معدل انتشار هذا المرض [في المغرب] مرتفع للغاية حيث زواج الأقارب(…)”. وبالفعل، فحسب المعلومات التي استقيناها، فإن كلا من بلال وشيماء تجمعهما قرابة.
تخضع حياة “أطفال القمر” لروتين صارم يعتمد على الوقاية من أشعة الشمس. “على الرغم من أننا نبقى داخل المنزل خلال النهار، إلا أن علينا تغطية أنفسنا من الرأس حتى أخمص القدمين بواقٍ من الشمس في الصباح، ثم تكرار العملية بعد الظهر، وفي الصيف نضع الواقي من الشمس من 6 إلى 8 مرات في اليوم” تقول شيماء.
لا يوجد علاج يساعد مرضى “جفاف الجلد المصطبغ” على عيش حياة طبيعية، وكل ما يمكنهم فعله هو تطبيق تدابير وقائية صارمة ومكلفة للغاية، يشمل ذلك ارتداء الملابس الواقية التي تحجب الأشعة فوق البنفسجية، ووضع الواقي من الشمس باستمرار حتى داخل المنزل، وتوفير بيئة معزولة عن ضوء الشمس داخل المنزل، وتركيب أضواء كهربائية مناسبة.
إضافة إلى المراهم والواقي من الشمس، تتطلب حماية المصابين بهذا المرض ارتداء ملابس وأقنعة خاصة تحجب بشكل خاص الأشعة فوق البنفسجية، وهي غير متوفرة في المغرب، مما يجعل ثمن الحصول عليها مكلفا.
يتم تصنيع الخوذة (أو القناع) التي يرتديها بلال، وهي أشبه ما تكون بخوذات رواد الفضاء، من طرف الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء الأمريكية “ناسا” بفضل جمعية صوت القمر، تم استيرادها من الخارج بمبلغ يناهز 30 ألف درهم للخوذة الواحدة.
يتحدث كل من بلال وشيماء بامتنان كبير عن صديقهما أحمد زينون، رئيس جمعية صوت القمر، الشاب الذي كان له الفضل في لقائنا بهما، يحاول بإمكانيات ضعيفة مساعدة المصابين بهذا المرض، لولاه “ما بقيت على قيد الحياة وقيد الأمل” تقول شيماء.
بلال بدوره لا يكف عن التنويه بجهوده في إعادته إلى الحياة، ويقول “أنا الآن بخير، مع جمعية صوت القمر، أحصل على الدواء، حتى القناع الذي أرتديه الآن كان إلى وقت قريب صعب الحصول عليه”.
يعمل زينون برفقة متطوعين آخرين على تقديم المساعدة لأطفال القمر، وقد أسس جمعية “صوت القمر”، قبل سنتين، لإسماع صوتهم، وبينما لا تتوفر الجمعية على مقر، يقضي وقته في البحث عن التبرعات وسبل جلب المساعدات من المحسنين في غياب دعم رسمي.
“نحن لا نتوفر على مقر خاص بنا، بسبب شح المساعدات، لذا فقد فكرنا أنه نوفر واجب كراء مقر الجمعية ومصاريف الكهرباء والماء، من أجل شراء الأدوية للأطفال المصابين وكل ما يجتاحونه”، يقول زينون.
ويضيف المتحدث “الهدف الوحيد الذي أركز عليه هو توفير الدواء وتنظيم الدورات التحسيسية للأطفال، أو توفير كشف مجاني بمشاركة أطباء قبلوا دعوتي بصدر رحب”.
ويعي زينون أهمية الأنشطة الترفيهية لأطفال القمر، لكن قلة الإمكانيات وغياب فريق كاف للقيام بذلك يظل عائقا أمام تطور نشاط الجمعية، “التركيز الآن منصب على توفير الدواء قبل الترفيه، فالقناع غير متوفر في المغرب، ويتطلب شراؤه من الخارج ثمنا باهظا، ويصل إلى 30 ألف درهم” يقول المتحدث.
ورغم ذلك تمكن “صوت القمر” إلى حد قليل من تغيير وضع المصابين، “عندما يحين وقت زيارة الطبيب، نحظى بعناية مختلفة، مقارنة بالسنوات الماضية حيث كنا ننتظر لساعات طوال تحت الشمس دونما أي حماية أو اهتمام يذكر” توضح شيماء.
ولا يحظى أطفال القمر برعاية خاصة من طرف المصالح الحكومية. فالذين تعوزهم الإمكانيات يصبحون عرضة للتهميش والإقصاء، وقد وقفنا على حالة شيماء وبلال اللذان لم يتمكنا من الاستفادة من حقهما في التعليم من جهة بسبب الإمكانيات، ومن جهة أخرى بسبب التنمر الذي تعرضا له.
مسؤول في وزارة التعليم، رفض ذكر اسمه، قال في حديث لهوامش، “إن الموضوع ملقى على وزارة التضامن والاندماج الاجتماعي والأسرة، لأنها مكلفة بتقديم الدعم للجمعيات بمبالغ مهمة، ومن خلال هذا الدعم تتكلف الجمعيات بملفات الحالات التي تتوفر عليها”، أما بالنسبة لوزارة التعليم فلا شيء يذكر.
وفي المقابل لم تتلق جمعية صوت القمر أي دعم، ”تواصلنا مع مؤسسة التعاون الوطني وقوبلنا باللامبالاة، وهو ما جعلنا نصرف النظر إلى البحث عن الدعم معتمدين على مساعدات الأهل والأصدقاء والمحسنين” يقول زينون.