محمد تغروت
“ كان إحساسھا ینبئھا أن العیون في ھذه اللحظة تراقبھا، وھي خارجة من باب العمارة لیلا بعد أن أنھت اجتماعھا بصدیقاتھا، كانت تشعر أن الخطر یلاحقھا من الخلف، أو أنه یسیر بجنبھا كفا بكف. ما ھي إلا لحظات، وقبل أن ترفع یدھا مشیرة لسیارة أجرة للتوقف، حتى انقض علیھا ثلاثة من رجال قدور الیوسفي أحد أشھر الجلادین في جھاز المخابرات.”
كان هذا مشهدا من رواية بعنوان “موسم الدموع” لنبيل أنطوان بكاني، وهو يصور أدبيا واقعة تاريخية لاختطاف الشهيدة سعيدة المنبهي، الرواية التي صدرت سنة 2019، وتتناول إحدى أقسى مراحل القمع السياسي الدامي في المغرب.
في هذا المقطع يظهر بوضوح اسم قدور اليوسفي، الذي كان يوصف بأنه أحد أكبر جلادي عهد الحسن الثاني، وهو الرجل الذي ظل “رأسه” مطلوبا من طرف ضحايا التعذيب والمدافعين عن حقوق الإنسان، والذي اختفى فترة طويلة ثم عاد اسمه للتداول مرة أخرى خلال الأيام الماضية، عقب نشر خبر وفاته، خبر نكأ الجراح ونبش الذاكرة.
توفي قدور اليوسفي، الذي يعتبر أحد أكبر المسؤولين عن المعتقل السري درب مولاي الشريف بالدار البيضاء، يوم 28 يوليوز الماضي، وشكل الحدث مناسبة لتداول صورته على مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل مكثف، مصحوبة بتعليقات الضحايا، الذين عانوا الأمرين على يده، وعلى يد مأموريه، وفرصة للوقوف على جزء من تاريخ المغرب في حقبة ما سمي بـ “سنوات الجمر والرصاص” واستخلاص الدروس.
كثيرون ممن مروا بـدرب مولاي الشريف وعادوا منه أحياء، يتذكرون بمرارة التعذيب والإهانات التي تعرضوا لها من قبل قدور اليوسفي بكلماته البذيئة، واستعماله لجهاز الصعق الكهربائي أثناء استنطاق الموقوفين، متذكرين أنه كان يحب أن يلهو بهذا الجهاز المؤلم كلعبة أطفال، بينما يتذكرون أنه كان يتلذذ بالتعذيب الجسدي حين يكون ثملا أو يتركه لمرؤوسيه.
“لقد عانيت في جسدي من فظاعات قدور اليوسفي وزبانيته. وأعلم أنهم عذبوا والدي من قبلي ببضع سنوات. وشَهِدْتُ على دناءة الرجل وحقارة مرؤوسيه، حيث كانوا يُزَوِّرون المعطيات عمدا، ليدَّعوا أنهم تمكنوا من حماية النظام من أخطار حقيقية ومُحدِقة، والحال أنهم كانوا في الغالب الأعم أمام أشخاص عُزَّل ومسالمين، لم يرتكبوا أي أعمال عنف أو إجرام، أو حتى لم تكن لهم أية صلة على الإطلاق بأي عمل سياسي”، هذا ما كتبه فؤاد عبد المومني، المعتقل السياسي السابق والناشط الحقوقي وأحد ضحايا قدور اليوسفي.
فؤاد عبد المومني، نشر مقالا بعنوان من “وحي وفاة الجلاد قدور اليوسفي”، ربط فيه بين نشر تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش حول “دليل أساليب القمع في المغرب”، ووفاة قدور اليوسفي، دون أن يكون قد اعترف بجرائمه ولا خضع للمحاسبة القضائية. واستخلص المومني أن تزامن الحدثين يظهر أن نظام الحكم في المغرب لا زال أبعد ما يكون عن التخلي عن منظومة الترهيب، التي يسمح فيها الاستيلاء على السلطة باشتغال الجهاز القمعي دون أية مراقبة مشروعة، ويجعل من المغرب نظاما يتنكر لأبسط الحقوق الأساسية للمواطنين.
وذكر عبد المومني أنه “على مدى عقود، كان الجلاد قدور اليوسفي نائب المدير الرسمي لـ ’’الفرقة الوطنية للشرطة القضائية‘‘، و”لَمْعَلَّمْ‘‘ في لغة فِرَق مركز الاحتجاز والخطف والتعذيب سيئ السمعة في درب مولاي الشريف”. مضيفا “أن جميع الضحايا الذين مكثوا لفترات طويلة في درب مولاي شريف سيتذكرون طوال حياتهم سادية التهديدات والضربات والإهانات والابتزاز، وسوء المعاملة والتجويع والتكبيل بالسلاسل في اليدين وتعصيب العينين والحرمان التام من الرعاية ومن الاتصال بالعالم الخارجي، ومن أي تبادل إنساني في الداخل، بالإضافة إلى التوجس من اقتراب جلسات تعذيب جديدة، والشعور بالذعر من رؤية الأقارب أو الرفاق يتعرضون بدورهم للاختطاف والتعذيب، ثم الخوف من المكوث في هذا المكان الرهيب للأبد، أو مغادرته فقط للمثول أمام قضاء ظالم ينطق بأحكام بالغة القسوة…”.
وخلص المومني إلى ضرورة مساءلة مرتكبي هذه الأعمال الدنيئة ومعاقبتهم إن اقتضى الحال، لأنها “خطوة ضرورية للقطع مع نظام الجلادين والمافيا الذي يتأسس على ضمان إفلات مساعديه من العقاب”، مضيفا أنه ما زال يعتقد “أنه يتعين على المغرب أن يحذو حذو جنوب أفريقيا في إعفاء المجرمين الذين أساؤوا استخدام سلطتهم للتعذيب والقتل، شريطة أن يعترفوا علانية بالجرائم التي شاركوا في ارتكابها أو كانوا شهودا عليها، وأن يعتذروا للضحايا وللشعب المغربي، وأن يعيدوا الممتلكات والثروات التي تمكنوا من الحصول عليها من ممارساتهم الإجرامية، وألا تُسند إليهم أية مسؤولية إدارية أو سياسية في المستقبل، وأن يُجردوا من حقوق المواطنة”.
المؤرخ والحقوقي المعطي منجب، تناول بدوره هذا الموضوع على صفحته على فايسبوك، مذكرا بواقعة اختطاف وإخفاء أطفال محمد أوفقير، وكان أصغرهم سنا لا يتجاوز عمره الثلاث سنوات، وأمهم وكذلك امرأتان قريبتان من الأسرة كل ذنبهما انهما كانتا حاضرتين وقت الاعتقال، حيث نقلوا إلى مركز إخفاء وفي ظروف سجنية جهنمية، موضحا كيف أن الكل بقي بالسجن لمدة تقارب العشرين سنة دون أن يعلم بمكانهم أحد، بينما كان الملك الحسن الثاني يكذِّب “الشائعات” حولهم وحول “المقبورين بسجن تازمامارت الرهيب”.. وفي الأخير انفضح أمر الاختفاء القسري والسجون السرية بالمغرب أمام العالم كله بفضل صدور كتاب جيل بيرو “صديقنا الملك” سنة 1990.
وذكر منجب في منشور ثان أن اليوسفي قدور “كان يتفنن في إخضاع المعارضين الشباب لكل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، حتى سقط عدد من المناضلين ضحية لطرقه البئيسة إما مستشهدين كعبد اللطيف زروال، أو فقدوا عقولهم نهائيا ومنهم من لازال يعيش الى اليوم تلك الكوابيس”.
عبد اللطيف زروال الأستاذ الجامعي وابن أخ الشهيد عبد اللطيف زروال، علّق على وفاة الكوميسير قدور اليوسفي مذكرا أنه “يعتبر المسؤول المباشر، مع مساعديه في الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، عن اختطاف وتعذيب العشرات، بل المئات، من أحرار هذا الوطن (حد الموت كما في حالة الشهيدين عبد اللطيف زروال وأمين التهاني) في المعتقل السري درب مولاي الشريف”. وأضاف زروال أن “قدور وزبانيته لم يكونوا سوى الذراع الضاربة لنظام مستبد و فاسد، اعتمد وما يزال بشكل ممنهج على تصفية و/أو سجن معارضيه و/أو تدجينهم سبيلا للاستمرار والبقاء جاثما على صدر شعبنا”.
وواصل ابن أخ الشهيد زروال “لم تتمكن عدالة شعبنا من القصاص من قدور وأمثاله ورؤسائهم لكن محكمة التاريخ أصدرت حكمها: سيظل اسمهم لصيقا بأبشع الجرائم التي ارتكبت في حق شعبنا. وسيعرف من سار على دربهم على الأقل نفس المصير، طال الزمن أم قصر”
.
جمال بن عمر، المعتقل السياسي السابق، والديبلوماسي الأممي الحالي، كان قد كتب على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، في وقت سابق، عن تجربة اختطافه من قبل الأمن السياسي المغربي، واقتياده إلى مقر شرطة الرباط حيث قضى “ليلة طويلة تحت تعذيب بلا هوادة” حسب تعبيره.
في ذات المنشور، ذكر بن عمر أنه بعد نقله إلى مركز الاعتقال السري في الدار البيضاء، درب مولاي الشريف، احتُجز لعدة أشهر مكبل اليدين معصوب العينين طوال الوقت. “هناك، كان الجلاد الرئيسي وهو سيئ السمعة ’’اليوسفي قدور‘‘ الذي فضحت أمره للصحفيين في منتصف التسعينيات عندما شاهدته -غير مصدق- في مقر الأمم المتحدة في جنيف ضمن وفد حكومي رسمي جاء لتقديم تقرير إلى لجنة الأمم المتحدة المعنية بالتعذيب يسوق زورا وبهتانا لالتزام المغرب بالمعايير الدولية” يقول جمال بنعمر.
المؤتمر الذي تحدث عنه بن عمر هو المؤتمر الدولي ضد التعذيب الذي عقد سنة 1995، وحضره وفد رسمي مغربي من أجل مناقشة التقرير الدولي حول التعذيب، والإجابة على أسئلة الخبراء في اللجنة، وكان من ضمن الوفد قدور اليوسفي، غير أن هذا الأخير، ومن أقحمه في الوفد، لم يكونوا على علم بتواجد معتقلين سياسيين سابقين، في المؤتمر الأممي، ممن سبق لقدور اليوسفي أن عذبهم شخصيا، وكان من ضمن من تعرف عليه الراحل إدريس بن زكري، وجمال بن عمر، وكان الأخير حينها يشتغل في منظمة العفو الدولية في لندن، قبل أن يلتحق بالأمم المتحدة كدبلوماسي.
الأمر الذي أثار ضجة أوقعت الوفد الرسمي المغربي في الإحراج الشديد، عندما قام المناضلون المغاربة باحتجاج قوي ضد وجود “الجلاد قدور اليوسفي ضمن الوفد المغربي، وهو المسؤول المباشر على التعذيب، ومن كان يشرف على عمليات التعذيب والاستنطاق التي كان يخضع لها المعتقلون. هكذا حدثت أزمة بين السلطات المغربية والأمم المتحدة”.
وختم بن عمر منشوره بالقول “مات العديد من رفاقي سجناء الرأي دون أن يروا التغيير السياسي الحقيقي الذي كنا نطمح إليه، لكن العديد من جلادينا ما زالوا على قيد الحياة ويتمتعون بتقاعدهم، ويستفيدون من حماية الدولة والإفلات المخزي من العقاب. على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه، إلا أنني أشعر بمزيج من الأسى والغضب لأنه بعد 45 عامًا من الليلة الرهيبة التي تم فيها اعتقالي لأول مرة، لا يزال هناك سجناء رأي في المغرب.”
لجنة التنسيق لعائلات المختطفين مجهولي المصير وضحايا الاختفاء القسري، نشرت بلاغا بالمناسبة، عنونته ب”حتى لا ننسى ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب”، ربطت من خلاله وفاة “الجلاد السابق المعروف بقدور اليوسفي”، بعدم معرفة الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالبلاد ومحاسبة الجلادين، وذكرت أن اسم اليوسفي اقترن بشكل قوي بما سمي ’’سنوات الجمر والرصاص‘‘، إذ كان مسؤولاً عن أحد أكبر مراكز التعذيب في المغرب، المعتقل السري الرهيب -السيء الذكر- درب مولاي الشريف بالدار البيضاء.
وأضاف ذات البلاغ أن قدور اليوسفي أشرف على استنطاق وتعذيب آلاف الرجال والنساء والأطفال المنتمين إلى أبرز الحركات المناضلة ببلادنا، منها على سبيل المثال الحركة الاتحادية، الحركة الماركسية اللينينية، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وغيرها، واستشهد عدد منهم بسبب التعذيب من بينهم زروال عبد اللطيف والتهاني أمين، أو الإنهاك وسوء التغذية إبان الممارسات التي كان يشرف عليها (الفلقة، الطيارة، الشيفون وأنواع متعددة ومختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي أثناء الاستنطاق)، متلذذا بصرخات ضحاياه تحت وابل ضربات السياط التي كانت تحفر أخاديد دموية على ظهورهم.
واعتبرت اللجنة وفاة قدور اليوسفي، دون معرفة الحقيقة ومحاسبة الجلادين والحفاظ على الذاكرة وعدم الإفلات من العقاب، لتفادي تكرار ما جرى وما يجري من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، دليلا على أن ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لا زال مفتوحا وخصوصا ملف المختطفين مجهولي المصير وضحايا الاختفاء القسري بالمغرب، و”دليلا آخر على أن النظام المغربي ليست له الإرادة السياسية لحل هذا الملف”.