هوامش/ بني ملال – خنيفرة
بحقيبة جلدية على الظهر، يبدأ محمد رحلة البحث عن الخردة (chatarra) في الأسواق الأسبوعية وفي “الجوطيات”، وكله أمل أن يعثر على ما يعيد بيعه من سلع ليعيل أسرته الصغيرة، ويواجه به تكاليف الحياة، لكن مغامرة محمد اليومية، غالبا ما تنتهي بحقيبة فارغة على الظهر، وأمل جديد في سوق جديد من الأسواق الأسبوعية بجهة بني ملال خنيفرة.
شأنه شأن مئات الشباب الذين يعانون من البطالة المتفشية في واحدة من أغنى الجهات بالمغرب، اختار محمد (35 سنة)، والذي انقطع عن الدراسة في سن مبكرة، تجارة الخردة التي تدخل إلى المغرب من بعض الدول الأوربية، وخاصة إسبانيا وإيطاليا، وتوزع بالأسواق الأسبوعية في المنطقة.
يلفت انتباه الزائرين القاصدين للأسواق الأسبوعية المنتشرة في المنطقة، تواجد هذه الفئة من الشباب بكثرة ممن أجبرهم واقع البطالة القاسي على امتهان هذه المهنة التي لا تدر الشيء الكثير، وفق تصريحات العديد من الباعة الذين التقتهم هوامش أنفو أثناء إعدادها لهذا الربورتاج، لكنها بالنسبة لهم تبقى الفرصة الوحيدة للاستمرار في الحياة والنجاة من مخالب البطالة.
يبدأ محمد، المنحدر من مدينة الفقيه بن صالح، جولته مبكرا، قبل أن ترسل الشمس خيوطها الأولى، متسلحا بعزيمة وأمل العثور على سلعته المفضلة والنادرة. وتشمل الجولة أسواق أربعاء الفقيه بن صالح، وسوق السبت أولاد النمة، وخميس أولاد امبارك والبروج بإقليم سطات، وتستمر لأزيد من ست ساعات، وأحيانا أكثر، تتخللها فترة راحة لتناول وجبة فطور، تتشكل في الغالب من “بيصارة” أو كأس شاي بالمقاهي الشعبية المنتشرة في هذه الأسواق.
“منذ أزيد من سبع سنوات وأنا أتردد على الأسواق الأسبوعية والجوطيات وأمارس تجارة الخردة التي يجلبها العمال المغاربة من الدول الأوروبية. ليست لدي أي صنعة أو حرفة أخرى تمكنني من مدخول قار أعيل به أسرتي الصغيرة” يقول محمد وهو يسرد قصته لمنصة هوامش.
يختص محمد كما بعض من زملائه، في شراء وجمع أجهزة ألعاب الفيديو القديمة (retro gaming (التي تدخل من أوروبا ثم يعيد بيعها بعد تنظيفها وصيانتها إن لزم الأمر، لزبناء يتخصصون في جمع هذه الألعاب من مدن مغربية أخرى.
بالنسبة لمحمد، فإن جمع ألعاب الفيديو القديمة، هي مهنة وهواية في حد ذاتها، فهو يعرف كل كبيرة وصغيرة عن هذه الألعاب وتاريخها والنادر منها، وأي من هذه الألعاب يفضله الزبناء، لذلك يبقى مرجعا يعود إليه زملاؤه للاستفسار كلما دعت الضرورة لذلك.
“أنا لا أحصل على كثير من المال من وراء هذه التجارة، وما أجنيه من مقابل مادي بسيط أعيش به أنا وزوجتي وابني الصغير”، يضيف المتحدث.
يلجأ محمد إلى عرض ما يشتريه وما يجمعه من الأسواق و”الجوطيات” من أشرطة وأجهزة ألعاب الفيديو على صفحة أنشأها على موقع فايسبوك خصيصا لهذا الغرض، أو في مجموعات مخصصة للألعاب القديمة، مما جعله معروفا لدى هواة وبائعي الألعاب القديمة في كل المدن المغربية، حيث كسب ثقتهم بالتزامه وحسن تعامله.
“ليس أمامي أي بديل آخر يمكنني من تغيير الوجهة نحو مهنة أخرى، فمنذ أزيد من سبع سنوات وأنا أمارس هذا النشاط، ورغم المدخول المتواضع الذي أحصل عليه من تجارة الخردة، فأنا راض عما أكسبه من وراء هذه التجارة”، يضيف محمد وهو يسرد جزء من يومياته لهوامش.
نشطت تجارة الخردة بشكل ملحوظ مع بداية الأزمة الاقتصادية التي ضربت الدول الأوروبية مع مطلع الألفية الثالثة، حيث فقد مئات العمال المغاربة بالخارج عملهم، مما دفعهم إلى البحث عن بدائل جديدة للعيش، كان أيسرها، بالنسبة لهم، جلب السلع وبيعها في الأسواق أو الجوطيات، في المدن ومنها مدن جهة بني ملال خنيفرة، حيث أصبحت هذه الأسواق تسهم في إنعاش الاقتصاد المحلي وتشغل آلاف الأشخاص الذين قذفت بهم سياسات الحكومات المتعاقبة في أتون البطالة.
تجارة الخردة لم تستهو فقط محمد المنقطع عن الدراسة، بل استهوت أيضا العشرات من الشباب الحاصل على شواهد جامعية. فقد لجأ الكثير منهم إليها بعد أن سدت أمامهم أبواب الشغل، وتخلت الدولة عن مسؤوليتها في التوظيف وتوفير فرص شغل للمعطلين خريجي الجامعات والمعاهد.
إبراهيم البالغ من العمر 43 سنة، مجاز في القانون الخاص، قضى أزيد من 16 سنة في تجارة الخردة يحكي لهوامش عن بداية تجربته في السوق “امتهنت تجارة الخردة بعد أربع سنوات من العطالة، قضيتها تائها في البحث عن عمل يحفظ كرامتي، ووجدت نفسي أخيرا مجبرا على ممارسة هذا النشاط، رغم أن حلمي كان هو الحصول على وظيفة في مجال تكويني”.
تم يضيف إبراهيم الذي يختلف وضعه كبائع للسلع بالتقسيط عن وضع محمد الباحث عن ألعاب الفيديو وسط الخردة “تجارة الخردة القادمة من أوروبا خلقت رواجا كبيرا في المنطقة، ووفرت مئات فرص الشغل للشباب طيلة السنوات العشر الماضية، رغم أن هذا القطاع مطبوع بالعشوائية وغياب اهتمام الدولة”.
لكن إبراهيم المنحدر من ضواحي سوق السبت، والحاصل على الإجازة من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمدينة مكناس، لا يتوانى عن الشكوى من الانقطاع المتكرر للسلع القادمة من الدول الأوروبية عن السوق، وندرتها، وتراجع الأرباح التي يتم جنيها من وراء هذه التجارة خلال الخمس السنوات الماضية.
“إن المدخول اليومي من هذه التجارة بدأ في التراجع بشكل كبير خلال الخمس سنوات الأخيرة، وتزايدت خسائر الباعة، وغادر العديد من “الحرايفية ” السوق للبحث عن مصدر جديد للعيش” يقول إبراهيم دون أن يواري مخاوفه من تدهور تجارة الخردة.
لم تكن الأزمة الدبلوماسية بين المغرب واسبانيا شأن الدبلوماسيين والسياسيين فقط، بل إن هذا الموضوع كان يغذي دردشات الحرايفية ويخيم على لقاءاتهم، وأكثر من ذلك تجدهم مطلعين على موازين القوى داخل الحكومة الإسبانية وطبيعة تشكيلتها، وفوق ذلك يعطون تخمينات بشأن تطورات الأزمة، هذا الاهتمام فُرض عليهم، فقطع العلاقات مع اسبانيا يعني بشكل مباشر وقف عبور السلع وهو ما يعني قطع أرزاقهم.
وأكد أغلب من التقتهم هوامش أثناء إعدادها لهذا الروبورتاج، أن تجارة السلع القادمة من أوروبا تأثرت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، بفعل الإجراءات الجمركية الجديدة، وارتفاع تكلفة نقلها إلى المغرب، ومن كثرة الوسطاء والإجراءات الاحترازية لمواجهة كوفيد-19، وكذا التوتر الذي ساد العلاقات بين مدريد والرباط، وبداية تركز هذه التجارة في المدن الكبرى كالدار البيضاء ومراكش وأكادير وغيرها.
ومع عودة العلاقات المغربية الإسبانية إلى سابق عهدها، بعد قطيعة دامت حوالي سنة، استعاد مئات الشباب الأمل في أن يستمر تدفق “السلع” نحو المغرب، لأن توفر هذه السلع في الأسواق سيساهم في خلق فرص شغل جديدة، وينقذ العديد من الأسر التي تعيش من عائداتها، وانقطاع تدفقها سيرمي العشرات منهم نحو عالم البطالة المجهول.
مصطفى (46) سنة قضى سنوات طويلة من عمره كعامل في قطاع البناء، لكنه وجد في سوق الخردة ما لم يجده في هذا القطاع، قال في تصريح لهوامش “أحمد الله على ما أربحه من وراء هذه التجارة، فأنا أعيل أسرة مكونة 6 أفراد بما أحصل عليه من وراء هذه التجارة التي خففت الأعباء عن الكثير من الشباب”.
ويضيف مصطفى “أسواق الخردة بدأت تنتعش خلال الأسابيع الماضية مع بداية عودة العمال المغاربة من الخارج، محملين بالسلع، بعد ركود دام أزيد من سنتين بفعل جائحة كورونا”.
يتخصص مصطفى الملقب بـ”اللحية” والقاطن بسوق السبت أولاد النمة، في شراء الساعات الرياضية والشواحن والحقائب والصنارات وكل ما له صلة بالرياضات المائية والجبلية، ثم يعيد بيعها للزبناء الذين يفدون من مدن أخرى كمراكش والدار البيضاء وأغلبهم تجار يعيدون هم الآخرون بيعها.
وفي غياب بيانات رسمية حول عدد الذين يشتغلون في هذا القطاع بالذات، تظل هذه التجارة ملاذا لمئات الشباب الذين يعيشون أوضاعا اقتصادية واجتماعية متردية، كما يعد فرصة لهم لكسب قوتهم اليومي، في ظل ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وعدم اهتمام الدولة بالقطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم والسكن وغيرها.
وفي غياب هذا الاهتمام يأمل “اللحية” ومحمد وإبراهيم وتجار الخردة بأسواق جهة بني ملال خنيفرة، أن يستمر تدفق السلع الأوروبية على الأسواق المغربية، كي لا يجدوا أنفسهم وجها لوجه مرة أخرى مع البطالة.