“ضروري النقلة (الغش)”، “لما كانت النقلة مانديرو والو”، “نقلت أنا من تحت الطاولة”، و”ديما النقلة”، كانت هذه بعض العبارات التي وردت على لسان بعض التلاميذ المغاربة، وهم يتدافعون أمام ميكروفونات متعددة الألوان، تهافتت على المؤسسات التعليمية، لأخذ “تصريحات” حول أجواء امتحانات الباكالوريا لهذه السنة.
تحولت مشاهد تهافت بعض المنابر الإعلامية الإلكترونية، وصناع المحتوى أمام الثانويات لنقل ارتسامات التلاميذ الذين يجتازون امتحانات الباكالوريا لهذه السنة، إلى حدث استثنائي في حد ذاته يستحق معالجة إعلامية ثلاثية الأبعاد، كما يستحق أن يكون مادة للباحثين في الظواهر الإعلامية الجديدة التي أفرزتها الثورة الرقمية. وبدل تحميل مسؤولية “الفشل الدراسي” للوضع التربوي العام بالبلاد، تجعل بعض”المنابر” من تصريحات التلاميذ محط سخرية.
لقد سعت هذه المنابر الإعلامية الإلكترونية إلى البحث عن نسب مشاهدة عالية والوصول إلى شريحة اجتماعية محددة، من خلال توظيف تلاميذ أغلبهم قصّر يعيشون كل أشكال الضغط والتوتر خلال هذه الامتحانات، من أجل تحقيق ربح تجاري (البوز) دون مراعاة لنفسيتهم ولسنّهم ولحقوقهم ولمستقبلهم.
أكد الدكتور هشام المكي أستاذ الإعلام والتواصل بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس، في حديثه لـ”هوامش” أن هناك عددا من المنابر الإعلامية استفادت من التقدم التكنولوجي سعيا للربح، لكنها لم تمر من القنوات التقليدية لإنتاج إعلاميين وصحفيين ممارسين، فهؤلاء المستثمرون، في الإعلام الرقمي، يقول المكي، غير مؤهلين لفهم الإشكالات المرتبطة بمهنة الصحافة، ويضعون مسألة الربح في قائمة الأولويات. ويضيف أن الإعلام الإلكتروني في المغرب يعيش نوعا من الفوضى ويحتاج إلى الكثير من التنظيم والتأطير والمواكبة، معتبرا “أن الوزارة مسؤولة عن هذا الوضع رغم المجهود المبذول في هذا الباب”، غير أن هذا المجهود حسبه “يحتاج إلى تقييم”، متسائلا “هل نحتاج إلى مواكبة الإعلام الرقمي بتكوينات دورية، وتراخيص متجددة، واحترام مواثيق معنية، وهل هناك آليات للرقابة، فحتى إن كنا نعيش انهيارا أخلاقيا في المجتمع فالمؤسسات الإعلامية لها منطقها الخاص في العمل ويجب أن تحاسب عليه” يقول الدكتور الخبير في “الإعلام والقيم”.
وتركزت أسئلة (صحافيي) هذه المنابر الإعلامية خلال هذه الخرجات التي كان بعضها على المباشر، على الجوانب السلبية مثل الغش (النقلة) وتساهل المكلفين بالحراسة مع الممتحنين، وتشديد الحراسة، وصعوبة مواد الامتحان، ومدة مراجعة الدروس، وغيرها من الأسئلة التي وصفها محاورونا في هذا الملف بأنها ذات طابع “تهريجي”، والتي تدور مضامينها أساسا حول إبراز الجوانب السلبية في هذا الاستحقاق الوطني، دون التركيز على تشجيع التلاميذ على العمل والجد من أجل النجاح.
بعض هذه المنابر الإعلامية، اختار المؤسسات العمومية المتواجدة في قلب الأحياء الشعبية بالمدن الكبرى كمراكش والدار البيضاء، والتي تتميز بكثافة سكانية عالية، كما اختار البعض الآخر بعناية كبيرة الفئة المستجوبة، إذ جرى استجواب تلاميذ “محبطين” و”غشاشين” أو غادروا قاعات الامتحانات بعد انصرام نصف المدة الزمنية المخصصة للامتحان، وذهبت منابر إلكترونية أخرى إلى إقحام آباء هؤلاء التلاميذ في هذه “اللعبة” التي قال عنها خبراء إنها “تسيء للمدرسة العمومية ولأطرها التربوية وللمجتمع عامة، ولرسالة الصحافة المهنية الهادفة”.
عن الرسائل التي حاولت هذه المنابر الإعلامية إيصالها إلى المتلقي من خلال الفيديوهات التي تم بثها بشكل مكثف طيلة فترة الامتحانات، يعتبر علي قرطيط، أستاذ مادة الفيزياء بالمديرية الإقليمية بكلميم، في تصريح لمنصة هوامش، أنه عوض التوجه إلى التلاميذ الذين يهيئون للإمتحانات بشكل جدي كنموذج يضرب به المثل، تم التوجه إلى فئة تعاني من مشاكل ولديها صعوبات إما طيلة السنة أو يوم الامتحان. وأكد قرطيط، أن الحالات التي تم استجوابها أمام أبواب المؤسسات، هي أقلية قليلة، ولا تعبر عن مستوى كل التلاميذ، وبالتالي فإبرازها على أنها “واقع عام”، تكمن وراءه خلفيات أخرى تخدم المخططات التي يتم الإعداد لها في الخفاء.
وأضاف قرطيط، أن الحملة التي قادتها هذه المنابر الإعلامية كانت مقصودة، وأنها ارتكبت جريمة في حق المدرسة، التي لا زال بها تلاميذ نجباء يحصلون على معدلات عالية، عكس الوجه المظلم الذي يحاولون تعميمه. “إن ما شاهدناه هو أمر محبط للشباب وللأجيال التي نعقد عليها الأمل، ويدخل في إطار مسلسل تشويه المدرسة العمومية”. يضيف المتحدث.
ورغم وجود هذا الصنف من ”التلاميذ” نتيجة تردي الخدمات على مستوى المدرسة العمومية بشكل عام، إلا أنها ظواهر تستوجب نقد المؤسسات الوصية دون الاكتفاء بتصريحات معزولة عن محيطها السوسيوثقافي والتعليمي والذي تسببت فيه سياسة تشجيع الخواص.
ويعتبر الدكتور هشام المكي أستاذ الإعلام والتواصل بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس، في تصريح لمنصة “هوامش”، أن هناك أولا خلطا كبيرا بين المؤسسات الإعلامية المرموقة وبعض المواقع الإلكترونية، متسائلا، عن الأهلية الأخلاقية والمهنية والقانونية للتعامل مع التلاميذ من قبل هذه المنابر، لنقل صورة موضوعية عن ظروف مرور الإمتحانات، واعتبر المتحدث أن الأمر يكتسي خطورة متعلقة بصورة التلميذ في الإعلام، وصور المدرسة العمومية وأخلاقيات المهنة وصورة الصحافة لدى الجمهور وصورة الوطن ككل.
وبخصوص تصوير تصريحات التلاميذ، يقول الدكتور هشام المكي الخبير في ”الإعلام والقيم” بجامعة فاس، إن الموضوع يمكن مقاربته من الجانب القانوني والأخلاقي، خاصة الجوانب المتعلقة بالحق في الصورة، وترخيص التصوير، مشيرا إلى أن الوضع يطرح مسألة الوضعية القانونية لتصوير الأطفال والقاصرين، “هل هناك إمكانية للتواصل مع أولياء التلاميذ قبل تصويرهم؟”، لكن حتى مع استئذان التلميذ وهو قاصر، يتساءل المكي، هل هذا التلميذ قادر على تقييم نتائج تصويره من طرف الإعلام؟ مردفا أن “المراهق أو الطفل أو التلميذ ليس مؤهلا لتقييم هذا الوضع، بالتالي، يسائل الأستاذ الجامعي، أهلية الإعلام في حسن التعامل مع صورة ذلك المتعلم؟
حمودة الرافاعي، أستاذ باحث في الديداكتيك، اعتبر في حديث لـ”هوامش”، أن التلاميذ يتضررون كثيرا من هذه التصريحات غير المسؤولة من قبيل “طلقو لينا اللّعب” (الغش) و “تساهلوا معانا” والتي أدلوا بها إلى هذه المنابر الإعلامية التي تتحمل مسؤولية أخلاقية عما نشرته من خلال استغلال تلاميذ من أجل رفع نسب المشاهدة لأغراض تجارية، الشيء الذي أدى إلى انتهاك حقوقهم.
وأضاف الرافاعي، أن هناك إشكالا قانونيا كبيرا سقطت فيه هذه المنابر الإعلامية الإلكترونية، حينما استجوبت تلاميذ قاصرين ونشرت صورهم دون موافقة أولياء أمورهم.
واسترسل الأستاذ الباحث، أن هذه المنابر الإعلامية تقدم صورة نمطية وسلبية عن المدارس المغربية والتلميذ المغربي والصحافة المغربية.
“مرة أخرى سقطت العديد من المنابر الإعلامية الإلكترونية في مستنقع اللامهنية”، هذا ما أكده صحافيون مهنيون لهوامش، حيث عملت على ضرب قواعد العمل الصحفي وأخلاقيات مهنة الصحافة عرض الحائط، باستغلالها استحقاقا وطنيا لغايات خارج نطاق الوظائف السامية للصحافة.
يونس مسكين، الصحافي والباحث في قضايا الأعلام، قال في تصريح لمنصة هوامش “أن بعض المنابر الإعلامية نالت نتيجة سلبية في اليوم الأول للامتحانات، حين عمدت إلى البحث عن الإثارة، واستغلت قاصرين في يوم استثنائي في مسار حياتهم الشخصية، مع ما يعنيه ذلك من انفعال وتوتر وضغط كبير، لتحصل منهم على محتوى يهدف إلى الترويج للمواقع الالكترونية في غياب شبه تام للضوابط والقواعد المهنية”.
وأضاف مسكين أن “لحظة استثنائية في حياة المجتمعات، كمثل يوم يخضع فيه نصف مليون من نساء ورجال المستقبل لاختبار تربوي سيحدد مستقبل جلهم، تستدعي ارتقاء جميع الفاعلين، خاصة منهم ذوي المسؤوليات والوظائف الاجتماعية، مثل الصحافة، إلى مستوى اللحظة، والقيام بالدور التنويري البناء الذي يخدم المصلحة العامة”، مردفا “لا أقصد هنا أن كشف بعض الممارسات السلبية والمشينة يجب أن يغيب عن الفعل الصحافي في هذا اليوم، لكن الأخبار حول هذه الظواهر لا ينفي استحضار الأدوار والوظائف الأساسية، خاصة عند التعامل مع جمهور ناشئ يستحق المواكبة والتنوير، والاستعانة بذوي الاختصاص التربوي والقانوني والعلمي للحديث عن الظواهر المشينة.
وأشار مسكين، إلى أن ما وقع خلال أيام الامتحانات يتطلب تحرك الهيئات المهنية للتنبيه والتوعية والحد من انتشار مثل هذه الممارسات التي تؤدي الى أضرار فادحة، سواء للأشخاص أو للمجتمع عموما.
من جانبه اعتبر الإعلامي محمد العوني، رئيس منظمة حريات الإعلام والتعبير (حاتم)، في تصريح لهوامش، “أن الترويج لتصريحات مسيئة للتلاميذ وتعميمها، يشجع على بعض السلوكات المضرة، مثل اعتبار البعض بأن الغش حق، وأنه تم حرمانهم من هذا الحق الذي هو الغش”.
وأكد العوني أنه “عندما تغيب الشروط المهنية وقواعد العمل الإعلامي تقع مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المنابر الإعلامية في الإساءة لفئة التلاميذ، كما تتم الإساءة إلى فئات أخرى، وتقع في محظور الترويج لأفكار غير صحيحة، لا ينبغي أن تعمم في الأصل”.
وقال الأستاذ الجامعي هشام المكي لـ”هوامش” إن هناك مؤسسات إعلامية لها منطقها في التعامل مع هذه المواضيع وهي تغلب بشكل صارخ مسألة الربح على كل الجوانب الأخلاقية والقيمية، وهذا جزء من الانفلات الذي يمكن تأطيره إذا ما تم الإجتهاد في هذا الباب، مردفا “مع الأسف ليس هناك ضغط مجتمعي في هذا الإتجاه، ضاربا المثال بقضية “الطفل ريان”، معتبرا أن المجتمع قد انتفض حينها نتيجة التغطيات الكاذبة والأخبار المضللة، لكن سرعان ما انطفأ ذلك، “وعدنا إلى هذا الخلل الذي لا يستشعره إلا الغيورين على المجال”.
وكان المجلس الوطني للصحافة، قد حث في بلاغ له صدر عقب حادثة الطفل ريان، نواحي مدينة شفشاون، والتي وقعت شهر فبراير المنصرم، (حث) وسائل الإعلام على الانضباط للمحور الثاني من ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة الخاص بالمسؤولية إزاء المجتمع ولاسيما البند التاسع منه المتعلق بحماية القاصرين.
ودعا المجلس مختلف وسائل الإعلام إلى الالتزام بأخلاقيات المهنة ومبادئها النبيلة وقواعدها، منبها إلى أن تغطية الفواجع الإنسانية وغيرها تعتبر “محكّا رئيسيا لمدى احترام الصحافة لمسؤوليتها الاجتماعية وحرصها على ألا تتحول إلى وسيلة للربح والارتزاق “.