الرئيسية

الفنيدق .. الانتقال العسير من اقتصاد الظل إلى الشرعية، فهل تقتات الأفواه الجائعة؟

في فبراير من سنة 2021، شهدت مدينة الفنيدق، الواقعة في أقصى شمال المغرب، على الحدود مع مدينة سبتة التابعة للإدارة الإسبانية، سلسلة من التظاهرات الحاشدة والغاضبة. آنذاك ثار السكان المحتجون أساسا ضد تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية وطالبوا بإيجاد بديل بعد قرار إغلاق معبر سبتة الحدودي، حيث كان التهريب المعيشي بين المغرب وإسبانيا أبرز نشاط اقتصادي ومورد الرزق الأول للساكنة المحلية. ودامت الاحتجاجات بضعة أسابيع لكنها سرعان ما توقفت بعد إقدام السلطات على حصارها ومحاكمة عدد من المحتجين، حيث أدان القضاء 4 منهم بستة أشهر موقوفة التنفيذ، بتهم رشق السلطات العمومية بالحجارة. ولاحتواء موجة السخط أعلنت السلطات إثر هذه الاحتجاجات اتخاذ إجراءات للإقلاع الاقتصادي وتنفيذ برنامج تنموي في المدينة، بغلاف مالي يقدر بحوالي 45 مليون دولار.

عماد استيتو 

بعد أزيد من سنة ونصف من هذه الاحتجاجات تراهن الدولة على خطتها لتحويل بيئة التهريب المعيشي إلى أنشطة منظمة كبديل تنموي وحيد، فرغم إعادة افتتاح المعبريين الحدوديين بسبتة ومليلية مؤخرا، أعلنت  السلطات المغربية استمرار منع التهريب المعيشي والقطع مع هذا النشاط الاقتصادي، مشيرة إلى أن المعبرين مخصصان حصريا لعبور المسافرين وأمتعتهم ومقتنياتهم الشخصية. 

” المعبر مفتوح الآن في وجه ساكنة سبتة والسياح المغاربة، لكن قرار منع التهريب أصبح نهائيا واتخذ بعدا استراتيجيا مرتبطا بتحولات السياسة الخارجية المغربية تجاه اسبانيا”، يشرح عبد الرحمن الشعيري عن “مجموعة التفكير من أجل الفنيدق” متحدثا لـ “هوامش انفو”.

بينما يعتبر يحيى البياري، وهو منتخب محلي، إغلاق المعبر بمثابة سكتة قلبية أصابت المنطقة، حيث تسبب في فقدان حوالي 20 ألف منصب شغل كان يحتويهم التهريب المعيشي. 

قبل وقف التهريب في خريف 2019، كان آلاف المغاربة يعبرون يوميا على الأقدام المركز الحدودي البري نحو سبتة لجلب بضائع متنوعة لحساب تجار يبيعونها في الفنيدق ومنها إلى مختلف المدن المغربية، مستفيدين من الإعفاءات من الرسوم الجمركية.

سبق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وهو مؤسسة استشارية رسمية، أن قال في تقرير رسمي أن عوامل عديدة ساهمت في استمرار نشاط التهريب المعيشي، من أبرزها الفوارق التنموية بين المغرب وجارته إسبانيا، حيث يمثل الناتج الداخلي الإجمالي للفرد الاسباني خمسة أضعاف نظيره المغربي منذ سنة 2013، علاوة على غياب الإكراهات المتعلقة باحترام المعايير الصحية ومعايير الجودة ومراقبة تواريخ انتهاء الصلاحية، بالنسبة للمنتجات التي تصل إلى التراب المغربي عن طريق التجارة غير القانونية.

وأضاف التقرير”لقد تكونت حلقة مفرغة حول التهريب، إلى درجة أن النقص الحاصل في فرص الشغل في القطاع المنظم بالمناطق المغربية المحاذية لمدينتي سبتة ومليلية كان يدفع الساكنة نحو مزاولة الأنشطة غير المنظمة، التي حال انتشارها طيلة سنوات دون ظهور صناعات وفرص شغل منظمة في هذه المناطق”، وقدر التقرير خسائر الدولة سنويا بما بين 400 إلى 500 مليون دولار.

غير أن المجلس نبه إلى أن إغلاق المعابر إجراء ضروري إلا أنه لن يكون ناجعا على المدى القصير لتدفق المواد المهربة، اذ اعتبر هذه الإجراءات مجرد “تدابير تعالج الأعراض لكن لا تنصبّ على الأسباب العميقة التي سمحت بانتشار تجارة التهريب، وباقي الأنشطة الأخرى غير المشروعة في المناطق المحيطة بسبتة ومليلية، ومن المؤكد، بطبيعة الحال، أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه الوضعية هو القصور الحاصل على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية والذي راكمته هذه المناطق طيلة عقود، ليسمح بخلق أنشطة وفرص كافية لفائدة الساكنة المحلية”.

مشاريع من أجل كبار التجار ؟

بتاريخ 12 فبراير بدأت المنطقة الاقتصادية الجديدة في الفنيدق نشاطها، وبحسب البيانات الرسمية فقد استقبلت حوالي 53 تاجرا كدفعة أولى، و يتعلق الأمر بمنطقة مخصصة لأنشطة الاستيراد، لأجل توفير عرض تجاري للبيع موجه للسوق المحلي وللتوزيع على المستوى الوطني والقاري، بشكل يضمن خفض كلفة النقل مقارنة مع التجارة غير المهيكلة بمعبر باب سبتة، ويضمن سلامة وصحة المواطن.

وقال ياسين، أحد التجار المحليين في المنطقة، لـ “هوامش انفو” إن بعض التجار الكبار الذين ينشطون في مجالات متعددة قد شرعوا فعلا في استيراد البضائع عبر ميناء طنجة المتوسط، بشكل قانوني مستفيدين من الامتيازات والتسهيلات التي قدمتها السلطات، لكن السوق المحلية لا تزال عموما راكدة”.

بعد منع التهريب، أُغلق حوالي 200 محل في الأسواق التي توجد بمنطقة المضيق-الفنيدق بسبب ضعف الحركة التجارية، وبالتالي انخفضت إيرادات التجار مع عدم قدرة أغلبهم على دفع السومة الكرائية لمحلاتهم؛ ناهيك عن غلاء السلع والبضائع بعدما أصبحت قليلة.

 ” قوة أسواق الفنيدق تكمن في السلع الاسبانية التي يقبل عليها الناس من كل المدن المغربية، الآن إنه كساد شبه مطلق، لقد تعرض الباعة لضربة قاضية وهذه الفئة لم تتخذ الدولة أي مبادرة لحمايتها أو التخفيف عنها، والشروط المفروضة للتسجيل في هذه المنطقة من قبيل القيد في السجل التجاري والورقة الضريبية ليست متوفرة فيمن تضرروا من وقف نقل السلع عبر المعبر”، يوضح ياسين.

بدوره يحيى البياري، يعتقد أن هذا المشروع مثله مثل مشاريع تنموية أخرى أعلنت عنها الدولة المغربية لا تقدم جوابا شافيا عن الأزمة الخانقة التي خلفها إغلاق المعبر. “المنطقة الاقتصادية غير واضحة المعالم، نحن نتحدث عن محلات كبرى على شكل مستودعات للسلع الآتية من ميناء طنجة المتوسط بعد جمركتها، يمكن لقرار مثل هذا أن يخفف من الأزمة على أصحاب رؤوس الأموال، أما الناس العاديون الذين كانوا يشتغلون على التهريب فلن يستفيدوا أي شيء”.

كابنِ عائلة كانت مرتبطة بالتجارة بين سبتة والمغرب، يؤمن البياري أن المبادرات والمشاريع التي تقترحها الدولة لا يمكن أن تعيد رواج الحركة الاقتصادية إلى سابق عهدها كما كانت تعيشها الفنيدق أيام التهريب المعيشي. “مع التهريب المعيشي كان هامش الربح كبيرا جدا، كان يمكن لمواطن أن يعبر سبتة مرتين في الصباح الباكر ويعود بالسلع ويبيعها في الحين ويجني حوالي 600 درهم. مع ذلك، الناس لا يطالبون بعودة التهريب لكن ببديل مربح، ولا يبدو أن فرص الشغل المقترحة توفر رواتب مجزية”.

ووفق دراسة حديثة أنجزها باحثون في جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، قال معظم المستجوبين في الفنيدق أن الدخل الذي كانوا يحصلون عليه من نشاط التهريب هو دخل غير كاف على العموم، ذلك أن ممتهنو التهريب يضطرون في كثير من الأحيان إلى أخذ سلف أو المماطلة في أداء واجبات الكراء، غير أن المستجوبين أجمعوا على أن وقف النشاط تسبب في وضعٍ أكثر فداحة مؤكدين أن وضعهم السابق كان أفضل.

بعضهم أكد على الجانب الاجتماعي، إذ ذكر أنه واجه مشاكل اجتماعية مع أفراد العائلة حيث أصبح عالة عليهم، أما البعض الآخر فقد اضطرت زوجته إلى العمل كمنظفة بيوت، في حين أن المشاكل الاقتصادية لم تسلم من إجابات المبحوثين أهمها كثرة الديون عند البقال والعائلة وصاحب الكراء فضلا عن تقلص  القدرة  الشرائية وصعوبة إيجاد عمل.

وأوصت الدراسة بضرورة المراهنة على فروع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني من خلال الرفع من عدد التعاونيات، خصوصا التعاونيات النسائية، في المجال الفلاحي والمنتجات المحلية والصناعة التقليدية، كما نصحت بتوفير آلية للحماية الاجتماعية، في شكل تحويلات نقدية شهرية لفائدة الأشخاص الذين كانوا يمتهنون التهريب المعيشي، لأن سنهم لم يعد يسمح لهم اليوم بمزاولة أي مهنة أو أنهم أصبحوا غير قادرين على ذلك.

البحث عن هوية جديدة 

محمد بنعيسى، رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، وبحسب رصده للأمور على أرض الميدان، يرى أن الأشهر القليلة الأخيرة شهدت نوعا من التحسن في الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة، ومرد ذلك بحسبه، 4 متغيرات أساسية: فتح معبر باب سبتة بعد تحسن العلاقات المغربية الاسبانية وهو ما جعل المنطقة عامة والفنيدق تستفيد من نشاط خلال الأسابيع الأخيرة. نشاط سياحي مرتبط بالصيف ثم عودة الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وبداية العمل بمنطقة الأنشطة الاقتصادية بالفنيدق، إضافة الى مبادرات أخرى مثل تشغيل النساء الحمالات وكذلك بعض الرجال ممن كانوا يرتادون المعبر ببرنامج الإنعاش الوطني، أو برنامج أوراش أو بعض المقاولات الخاصة.

يصف الفاعل المدني المحلي عبد الرحمن الشعيري الوضع في الفنيدق اليوم بأنه “تحولٌ بطيء في اتجاه تأسيس اقتصاد محلي منظم ومندمج في المنظومة القانونية للاقتصاد الوطني المغربي”، ويحتاج هذا التحول في تصور الشعيري إلى استمرار دعمه بشكل قوي من طرف الدولة حتى تتحقق نتائج إيجابية على المستويين المتوسط والبعيد.

على عكس البياري، يأمل الشعيري أن تسفر الدينامية الحالية عن تأسيس هوية اقتصادية جديدة في الفنيدق عبر تسريع وتيرة العمل في المنطقة الصناعية في الضواحي وتشجيع الشباب على خلق مقاولات صغرى وكذا تطوير العرض السياحي.

” يمكن للدولة دعم مبادرات التشغيل الذاتي التي يمكنها أن تشكل بديلا عن التهريب المعيشي، خاصة إن تم توسيع العملية داخل وحدات كبرى للانتاج في المنطقة الصناعية وتطوير نشاط الصيد البحري، مع تحسين العرض السياحي ليصبح عرضا دائما وليس فقط سنويا مرتبطا بفصل الصيف”، يردف الشعيري.

بالنسبة إلى فادي الوكيلي، وهو أستاذ للاقتصاد بتطوان، فإن البدائل التي تقترحها الدولة من شأنها حفظ كرامة المواطنين في الفنيدق، خصوصا مما كانوا يتعرضون له من إهانة ومعاناة عند معبر باب سبتة.

” رغم أن التهريب كان يدر مدخولا جيدا، إلا أنه كان مرهقا من الناحية النفسية، أعتقد أن الناس سيشعرون براحة أكبر في الوظائف الجديدة لأنها ستحميهم من المهانة، ولا يجب أن ننسى أن المشتغلين في التهريب من أبناء الفنيدق يشكلون حوالي 50 بالمئة فقط من مجموع من كانوا يشتغلون في هذا النشاط، وبالتالي فإن المشاريع الجديدة يمكنها امتصاص الغضب، شريطة أن يستفيد منها بشكل رئيسي أبناء المنطقة”.

وبحسب الدراسة التي أنجزها باحثون في جامعة تطوان، فإن جل العاملين في التهريب أو ما يعرف ب”تحمالت” رجالا ً ونساء ليسوا راضين عن العمل في هذا القطاع غير المهيكل، نظرا للصعاب التي يواجهونها والظلم والقهر والتهميش والتعنيف والسب والشتم، حيث عبر البعض عن سخطهم على الاكتظاظ والتدافع الذي يحدث في المعبر أثناء حمل كم هائل من السلع، ناهيك عن البقاء لساعات متأخرة ينتظرون دورهم واضطرارهم لوضع الحفاظات والمبيت في العراء، وتعرض بعض النسوة للاستغلال الجنسي والتحرش من طرف رجال الجمارك المغاربة والاسبان القائمين على المعبر، والضرب والرفس بوحشية، إلا أن المستجوبين جميعا أكدوا أن الدافع الذي جعلهم يصبرون على العمل في هذه الظروف اللاإنسانية هو ما يجنونه من التهريب إلى جانب غياب البديل.

يبدو أستاذ الاقتصاد فادي الوكيلي، متفائلا بحياة اقتصادية جديدة في الفنيدق، ” يمكن أن تصبح للفنيدق هوية تجارية، أن يتخذ النشاط الاقتصادي طابعا مهيكلا، أن تستفيد الدولة من الضرائب والمواطن من الشغل، وأن يستفيد المستهلك من منتوج بجودة جيدة  وبثمن جد مناسب، وأن تصبح وجهة للمستثمر الأجنبي وقبلة سياحية أكثر جاذبية”، يتابع الوكيلي متحدثا ل “هوامش انفو”.

محمد بنعيسى، كواحد من الفاعلين المحليين الذين لطالما نادوا بوقف التهريب بعد سيطرة مافيا من النافذين الذين يحظون بحماية مسؤولين فاسدين في الإدارة عليها، لا يعتقد أن منطقة الأنشطة الاقتصادية بالفنيدق التي انطلق بها العمل خلال الأشهر القليلة الأخيرة ستحل مشكلة عقود من التهميش بالمنطقة، لكن “يمكنها إضافة إلى مبادرات أخرى كمنطقة الأنشطة التجارية لمرتيل التي ينتظر عما قريب الانتهاء منها، أو الصناعية بالفنيدق تخفيف التوتر، وضمان عدم تكرار ما جرى في مناطق أخرى كالحسيمة وجرادة وسيدي افني وكانت تكلفتها كبيرة”.

اتخذت الدولة عدة إجراءات موازية للتخفيف من حدة البطالة الناتجة عن وقف نشاط التهريب المعيشي، من قبيل تشغيل العشرات من النساء في قطاع النظافة، معظمهن مثل فاطمة- 43 سنة- كن يشتغلن سابقا حمالات للسلع المهربة، غير أن ما يتلقونه من رواتب هزيل جدا. ” الآن أجني حوالي 1700 درهم (170 أورو) شهريا مقابل العمل كل يوم، بينما كان يمكنني سابقا أن أكسب هذا المبلغ بعد يومين فقط من العمل في إخراج السلع من سبتة إلى الفنيدق، ما نكسبه الآن لا يكفينا لإعالة أسرنا”.

بعد الإغلاق لاحظ يحيى البياري تنامي الهجرة الجماعية لفئات اجتماعية مختلفة بما فيهم القاصرون سواء عبر قوارب بحرية أو سباحة. ” ازدادت نسبة الراغبين في الهجرة إلى الضفة المجاورة، وهذا تحول لم يكن سابقا، الحلول التي تقترحها الدولة لا تزال تسير ببطء شديد وهناك ارتجالية في تنزيلها”.

قبل منع نشاط التهريب كان الصلات بسبتة تطعم الآلاف من الأفواه في الفنيدق أو كاستييخو كما يحب أهلها دعوتها، وعلى امتداد حوالي 40 عاما تركت المدينة وحدها لتأمين قوتها على الحدود، فأصبح التهريب هويتها وثقافتها، قبل أن تقرر الدولة بشكل قسري ودون الحاجة إلى المرور من مرحلة انتقالية فرض انتقال قاس وراديكالي نحو نظام اقتصادي جديد، فكان من الطبيعي أن يواجه هذا التحول بنوع من المقاومة وعدم الاقتناع.

“في الواقع لا أحد في الفنيدق الآن يراهن الآن بشكل واقعي وصريح على عودة التهريب، هذا ليس مطلبا، لكن السكان يطالبون بحلول تضمن حدا أدنى من الكرامة، ويريدون أن يروا اقتصاد منطقتهم ينتعش، يتعلق الأمر بأزمة ثقة فليست هذه المرة الأولى التي يعلن فيها عن مشاريع تنموية دون أن يكون لذلك أثر مباشر على المعيش اليومي للسكان”، يوضح التاجر ياسين.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram