هوامش
تعرف جل المدن والقرى المغربية، انتشار أعداد كبيرة من المختلين العقليين والمرضى النفسانيين من مختلف الأعمار. يقيمون بالقرب من المحطات الطرقية، وفي الساحات والحدائق والأسوار وبالقرب من الأسواق والمساجد في العراء. ويشكل تواجدهم بالشارع بهذه الأعداد الكبيرة، خطرا على المارة، فكثيرا ما وقعت أحداث مؤلمة في مختلف المدن المغربية، كان وراءها مختلون عقليون يتجولون بكل حرية في الأماكن العمومية، دون تدخل للسلطات المختصة التي يخول لها القانون إيداع هذه الفئة في المراكز الصحية ودور الرعاية المتواجدة بمختلف جهات بالمغرب.
ويعيش المختلون العقليون والمرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية، أوضاعا لاإنسانية نتيجة سوء التغذية وغياب النظافة وقلة النوم والبرد القارس خلال الليل، مما يعرض صحتهم للخطر. فمعظمهم يعاني من أمراض تهدد حياتهم، كأمراض الجلد والربو والحساسية والكلي وغيرها. كما يتعرضون للعنف والاستغلال الجنسي، وخاصة النساء منهن والأطفال، في الأماكن التي يقيمون فيها، والتي غالبا ما تكون منعزلة ومظلمة وغير آمنة.
وفي غياب إحصائيات رسمية ومعطيات دقيقة حول عدد المختلين العقليين الذين يجوبون الشوارع المغربية، فإن أعدادهم تتزايد باستمرار، رغم النداءات والتنبيهات والتقارير التي ما فتئت تصدرها الجمعيات الحقوقية لحث السلطات المختصة على التدخل لتطويق هذه الظاهرة من خلال ضمان رعاية وحماية كافيتين لهم.
وتتحدث تقارير رسمية عن 3 ألاف مختل يجوبون شوارع مدينة الدار البيضاء وحدها، من مجوع 21 ألف مختل عقلي. حسب تقرير لوزارة الصحة صدر سنة 2013. في الوقت الذي نتحدث فيه عن نقص حاد في مؤسسات معالجة الأمراض العقلية، حيت وصل عددها إلى 27 مؤسسة فقط، مقابل 170 طبيبا في كل أنحاء المغرب.
عمر أربيب، الناشط بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أكد في تصريح لمنصة هوامش، أن مجال الصحة العقلية والنفسية لا يحظى بالاهتمام الكافي، ورغم محاولات الحكومة ابتداء من سنة 2012 طرح الإشكالات وإغلاق ضريح ” بويا عمر ” الذي كانت تمارس فيه فظاعات في حق المرضى، فإن السياسة الصحية في هذا المجال تبدو قاصرة عن توفير الرعاية الكافية للمرضى النفسيين والعقليين وحمايتهم.
وأضاف أربيب، أن مسؤولية وزارة الصحة تبقى ثابتة في عدم رعاية المختلين عقليا الذين يتجولون بالشوارع، مشيرا إلى أن وجودهم أضحى أمرا مألوفا دون أن تتدخل السلطات المعنية.
وأشار أربيب، إلى أن باقي مؤسسات الدولة المعنية لم تنجح في الحد من الظاهرة، وأنه لا يجب أن يقتصر التدخل – وإن كان أساسيا- على التطبيب، بل يجب أن يشمل كذلك سياسة تنموية تروم القضاء على الإقصاء الاجتماعي، وتوفير إمكانيات العيش الكريم وكل متطلبات الرعاية الاجتماعية، والتصدى للآفات والظواهر الأخرى، كانتشار تناول المخدرات بكل أصنافها، بما فيها الأقراص المهلوسة التي تخلف تداعيات خطيرة.
ودعا أربيب إلى الرفع من عدد الأطر الطبية والمختصة، والمراكز الاستشفائية ومراكز الإيواء وأنسنة السجون ومراكز الاحتجاز، وتوفير الأدوية، معتبرا أن “تكلفة إقدام مريض عقليا أو نفسيا على إيذاء شخص أو أشخاص آخرين لا تقدر بثمن، وأن التصدي للظاهرة يستلزم تحيين النصوص القانونية المعنية بالأشخاص الذين يعانون مرضا عقليا بما ينسجم و “مبادئ حماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي وتحسين العناية بالصحة العقلية ” الصادرة عن الأمم المتحدة”.
إن المشاهد التي يظهر بها المختلون العقليون في الشوارع المغربية، جعلتهم أكثر عرضة للتنمر والوصم. كما أن عدوانية البعض منهم، جعلتهم يتعرضون إلى معاملة حاطة من الكرامة في كثير من الأحيان، مما يعمق من معاناتهم، ويزيد من مأساتهم، في ظل غياب لجن مختصة ومؤسسات تحميهم من خطر الاعتداءات التي يتعرضون لها بالشوارع.
وعن هذا الوضع الذي تعيشه هذه الفئة اجتماعيا، قال الطالب الباحث في علم الاجتماع أسامة بحري “إن الوصم الذي لازال يشهده المريض العقلي هو ناتج عن بنية ذهنية ثقافية. وهذا ما تبرهن عليه بعض العادات التي لا زالنا نلاحظها في البيوت المغربية، كتخويف الأطفال الصغار بالمريض العقلي (بوعو)، وهذا ناتج عن ربط الأفراد للمريض العقلي بالمس والجن و(عيشة قنديشة)، (حفارة القبور) وغيرها”.
وأضاف بحري، أن الوصم الذي يتعرض له المريض العقلي هو نتاج الكل، أي “نتاج المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي لا تضع ضمن تفكيرها وعملها خطط توعية لصحة الافراد، زد على ذلك العامل الثقافي الذي لا زلنا نشاهد اكتساحه للعديد من الشؤون الاجتماعية، وهذا يدل على أن الأسرة والمدرسة وغيرها من المؤسسات هي من تعيد انتاج تعليم ما سبق تعليمه بأسس كلاسيكية ولا تربوية”.
وأشار بحري، إلى أن الصور المخيالية التي تتأسس اجتماعيا وثقافيا حول المختل العقلي، هو أنه كائن لا روابط اجتماعية وثقافية وذهنية تربطنا به، وهذا ما يجعل كل أنواع الاستبعاد والاقصاء تحيط به داخل التفاعلات الاجتماعية.
في تقرير “المقرر الخاص المعني بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية”، الذي تم عرضه أمام الدورة الخامسة والثلاثين لمجلس حقوق الإنسان (يونيو 2017) دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تجاوز خدمات الصحة العقلية، والتوجه صوب تكثيف الرعاية والدعم.
وأكد تقرير المقرر الخاص، أن هذه الرعاية يجب أن تشمل المرافق والسلع وتوفير خدمات مقبولة وجيدة يسهل الحصول عليها، معتبرا أن الرعاية والدعم القائمان على الحق في الصحة العقلية جزء لا يتجزأ من الرعاية الصحية للجميع.
وانتقد التقرير، الوضع بالعديد من البلدان التي تستند فيها الصحة العقلية والرعاية الاجتماعية المحدودة إلى نموذج طبي إحيائي وطابع مؤسساتي ضيقين، مشددا على ضرورة أن تتماشى الرعاية والدعم مع الحق في الصحة.
وشدد التقرير، على أن تتضمن الرعاية مجموعة واسعة من الخدمات المتداخلة والمتناسقة هدفها الوقاية والعلاج وإعادة التأهيل، والرعاية، والتعافي، والاستعاضة عن خطاب “الزيادة ” في الرعاية، بخطاب “الزيادة الأوسع” وتعزيز العلاجات النفسية – الاجتماعية القائمة على الأدلة العلمية، وتدريب العاملين الصحيين المسؤولين عن إتاحتها وعدم رعايتهم في مرافق غير ملائمة وغيرها من الإجراءات.
المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في تقريره السنوي عن حالة حقوق الإنسان بالمغرب لسنة 2019، سجل عدم كفاية البنيات المخصصة لإيواء الأشخاص المصابين بالاضطرابات العقلية، وعدم كفاية طاقتها الاستيعابية ووجود خصاص على مستوى الطاقم الطبي والموارد البشرية والتجهيزات وضعف الخدمات المقدمة للنزلاء.
ووفقا لوزارة الصحة المغربية، فإن 41 بالمائة من المغاربة يعانون من مشاكل نفسية وعقلية، وأن الأرقام الرسمية في أعداد الأشخاص المصابين في ارتفاع مستمر، مما يطرح السؤال حول مدى صلاحية النظام الصحي والقانوني الذي خصصته الدولة لهذه الفئة من المجتمع المغربي.
رغم ملاحظات وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية والوطنية، وتوصيات هيئة الأمم المتحدة، الداعية إلى سن إطار تشريعي جديد خاص بمكافحة الاضطرابات العقلية وحماية حقوق الأشخاص المصابين بها وتوفير الرعاية لهم، فإن القانون المعمول به حاليا في المغرب “القانون الخاص بالوقاية من الأمراض العقلية ومعالجتها وحماية المرضى المصابين بها” يعود إلى ظهير رقم 295-58-1 الصادر في 30 أبريل 1959، أي أن عمر هذا الظهير يزيد عن 63 سنة.
العديد من المؤسسات والمنظمات الحقوقية الوطنية أجمعت على أن هذا القانون أصبح متجاوزا، بالنظر للتطورات الكبيرة التي عرفتها بنية المجتمع المغربي، كما أن حالة المؤسسات الاستشفائية اليوم، جد مزرية وبناياتها وتجهيزاتها أصبحت قديمة بسبب غياب المراقبة والسلامة والصيانة، وكذا ضعف الطاقة الإيوائية لهذه المؤسسات التي تخضع لتوزيع جغرافي غير متكافئ فضلا عن الخصاص المهول في عدد الأطباء والممرضين والممرضات، والافتقار إلى فئات مهنية ومدربة وضرورية في مجال الصحة العقلية، وضعف جودة الخدمات الطبية وغير الطبية المقدمة في غالبية مؤسسات ومرافق الصحة العقلية.
وفي تقريره السنوي عن حالة حقوق الإنسان بالمغرب لسنة 2019، اعتبر المجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة رسمية) أن الظهير رقم 295-58-1 (1959) لا يواكب التطورات المجتمعية التي يعرفها المغرب، ما ينجم عنه المس بحقوق فئة المختلين العقليين، مشيرا إلى التأخر الحاصل في اعتماد مشروع القانون رقم 71.13 والمتعلق بمكافحة الاضطرابات العقلية وبحماية حقوق الأشخاص المصابين بها، المحال على المؤسسة التشريعية منذ مارس 2016 ولا زال إلى حد الآن لم يخرج إلى حيز الوجود.
ويهدف مشروع القانون رقم 71.13 إلى إجراء مراجعة شاملة للظهير رقم 295-58-1 المتعلق بـ “الوقاية من الأمراض العقلية ومعالجتها وحماية المصابين بها”، على اعتبار أنها لم تعد تتلاءم مع التطور المسجل في مجال حماية الحقوق والحريات الأساسية لفئة الأشخاص المصابين بالاضطرابات العقلية، سواء في الاتفاقيات الدولية أو في تشريعات مجموعة من البلدان.
ويرمي مشروع القانون رقم 71.13 الذي يتضمن 110 مواد، إلى حماية الحقوق الأساسية والحريات الفردية للأشخاص المصابين باضطرابات عقلية، وتحديد المبادئ العامة التي يجب أن يخضع لها التكفل بهؤلاء الأشخاص، بالإضافة إلى تحديد المؤسسات الصحية التي تعنى بالوقاية من الاضطرابات العقلية وبعلاج الأشخاص المصابين بها.
كما نصت مقتضيات هذا المشروع على إحداث لجن وطنية وجهوية للصحة العقلية، وعلى إدراج أعمال الوقاية والتشخيص والعلاج وإعادة التأهيل وإعادة الإدماج ضمن مكافحة الاضطرابات العقلية وتنظيم التكفل بالأشخاص المصابين بها.
وهكذا فبعد مرور أزيد من 6 سنوات على إحالة المشروع، على لجنة القطاعات الاجتماعية في 16 مارس من سنة 2016، ورغم الانتقادات والنقاشات التي أثيرت حول المشروع، لا زال هذا الأخير حبيس الرفوف بالمؤسسة التشريعية، لتبقى دار لقمان على حالها، ويستمر انتهاك حقوق هذه الفئة التي تحتاج إلى الرعاية الكاملة.