هكذا تحدثت إلينا في هذا الحوار التالي، الشاعرة والزجالة المغربية دليلة فخري عن تجربتها القاسية مع مرض يجهله الكثيرون وتعاني منه العديد من النساء، معاناة لا تطاق، إنه بطانة الرحم المهاجرة (لتعرف أكثر عن هذا المرض أنقر هنا).
أجرى الحوار: محمد تغروت
كنت فتاة نشيطة، حيوية، مجتهدة، ومشاغبة أيضا.. بعض الشغب لا يضير.. ثم جاء ذلك اليوم.. حيث وجدت أولى القطرات الحمراء في ملابسي الداخلية.. خفت.. بل ارتعبت.. ولم أكن أدري أن رحلة مخيفة حقا ستبدأ حينها.. وأن حياتي ستصير رهناً للأحمر.
مرت السنة الأولى من البلوغ بشكل طبيعي.. ثم في السنة الثانية بدأ الألم.. خفيفا ثم حادا ثم أشد حدة.. في البداية كانت بعض الأعشاب تكفي لتسكينه.. ثم المسكنات، مضادات الالتهاب ومضادات الألم.. جرعة واحدة كانت كافية ثم اثنتان ثم ثلاث، ثم over dose. تضاعفت الجرعات أكثر من الموصى بها طبيا أضعافا كثيرة، كل هذا من أجل تسكين الآلام الهائجة. إنه الموت القادم من الرحم. كيف يسمونه رحما وهو بهذه القسوة” هكذا كتبت في “نكاية” (المقصود ديوانها الشعري المعنون “نكاية في الأستروجين” –المُحاور-).
تلك معاناة أخرى. على مستوى العائلة كنت دائما أجد نفسي أمام حرج كبير.. من جهة يعرف الجميع أنني في فترة حيض.. من جهة ثانية، شدة الآلام وحدتها تقَابل بجواب بارد ومستخِفّ من الأطباء -وحتى الطبيبات- الذين فحصت عندهم.. في كل فحص الجملة ذاتها تتكرر: “لا يوجد عندك أي مشكل على مستوى الرحم.. إنه أمر عادي.. هي آلام الحيض وستذهب مع الزواج.. يفضل أن تتزوجي وتنجبي !”
يقال هذا الكلام لفتاة مسكونة بالشعر والحلم والأهداف الكبيرة والطموح العالي، وآخر ما تفكر فيه هو الزواج.. كان هذا الجواب يصيبني بحالة من الغضب الشديد.. حتى أنني كنت أواجه وجعا أكبر وهو وجع التهمة بالادعاء والدلال والوهم…والحقيقة أن الآلام كانت حقيقتي الكبرى.
لكن وسط نظرات الإهمال تارة والاستخفاف تارات، كانت أمي ولا تزال غارقة معي في معاناتي.. وحدها تشعرني أنها معي دائما وأبدا. عندما يتخلى عني الجميع وحدها أمي تبقى معي.. يدها في يدي.. وهذا كل ما أريد.
بعد رحلة طويلة من التنقل بين الأطباء المتخصصين في أمراض النساء والتوليد، في المدن الكبرى (فاس، الرباط، البيضاء)، وسماع الجملة نفسها، بدون أدنى جهد من هؤلاء في تتبع الحالة أو معرفة السبب وراء هذه الآلام الشديدة. لو أنها تبقى على مستوى واحد لهان الأمر، ولكنها تزداد حدة شهرا بعد شهر، عاما بعد عام. وتزداد انتشارا على مستوى مناطق تمركزها، أكبر وتكبر معي آلامي. أتقدم في السن فتتقدم معي الآلام في المساحات التي تحتلها من جسدي المنهك. كل هذا لم يعره الأطباء الذين ترددت عليهم أي اهتمام، تنتهي المقابلة بوصفات مختلفة لمسكنات ألم أو أدوية هرمونية تندرج في الغالب في موانع الحمل، جربتها كلها بدون جدوى. ثم أخبرتني إحدى صديقاتي مشكورة عن طبيب بروفيسور فقلت أجرب. بمجرد وصفي للحالة كان يردد على مسمعي: لوندوميتريوز. كررها كثيرا حتى انزعجت. فسألته: اشنو هاد لوندوميتريوز؟ فبدأ يشرح لي المرض، “اسمه بالعربية:” بطانة الرحم المهاجرة” هو أجزاء من الغلاف الذي يغطي الرحم من الداخل نسميه (بطانة الرحم) تنتقل في مسار معاكس لطريقها وهو النزول على شكل حيض، لتستقر خارج الرحم في المبيض أو قناة فالوب أو الأمعاء أو أي مكان تصل إليه، وفي كل مكان تستقر فيه يحدث لها ما يحدث للبطانة التي في الداخل: دورة شهرية ولكن خارج مكانها، نزيف والتصاقات وآلام شديدة ومضاعفات كثيرة لا تُعد”، كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذا المرض الذي عانيت منه لأزيد من عشر سنوات دون أن أعرفه. أذكر أنني أبديت رد فعل مطمئن وقلت للطبيب: الحمد لله كنت أخشى أن يكون ما عندي سرطانا. فصدمني الطبيب بجملة ظننت أنها قاسية حينها ولكنني عشت حقيقة قسوتها فيما بعد. قال لي بالحرف:” السرطان أرحم من هذا المرض، السرطان لا تعاني صاحبته إلا إذا تفاقم الوضع ولم يتم العلاج مبكرا، السرطان صامت ولا يسبب الألم إلا في مراحله المتقدمة. أما مع البطانة فالمعاناة مستمرة ودائمة ولن تنتهي إلا ببلوغ سن اليأس بعد أن تخلف ما تخلف من التبعات”. كان من الصدف أو الأقدار الغريبة أنني في اليوم نفسه وجدت طبيبا مصريا على إحدى القنوات يتحدث عن المرض نفسه، تابعته لسنوات وعرفت الكثير من خلاله ومن خلال تجربتي الخاصة ومن خلال قراءاتي وبحثي عن هذا المرض الحربائي الذي لا يستقر على حال. بالنسبة إليّ هو أشرس عدو يمكن لامرأة أن تواجهه في حياتها.
امرأة مصابة ببطانة الرحم المهاجرة هي غير محتاجة إلى أي مشكل إضافي، ولا إلى أعداء، يكفي هذا العدو الذي في الداخل، هذا العدو الخفي الذي ما تكاد تمسكه هنا حتى ينتقل من هنا إلى هناك، هذا العدو الذي صيّر الجسد حقل ألغام يتفجر كل شهر. بكل ما تخلفه الانفجارات من دمار وخسائر. على مستوى النفس والجسد.
كنت متفوقة في دراستي، حصلت على النقطة الأولى في الامتحان الجهوي للباكالوريا على مستوى المؤسسة التي درست بها (ثانوية ابن هانئ) ثم بدأ التراجع وبدأت المعاناة. في الكلية اضطررت لتكرار سنتين في سلك الإجازة بسبب المرض. تتزامن فترة الامتحانات مع فترة المرض فيقول الأخير كلمته العليا. في سلك الماستر بضربة حظ فقط أو ربما بدعوة من دعوات أمي حملت إلى المستعجلات بعد يوم فقط من مناقشة بحثي، كان يمكن أن أضيع سنة أخرى لو تقدمت الدورة عن موعدها بيوم. في الدكتوراه أيضا كدت أخسر الرهان في آخر لحظة بسبب هذا المرض. المرض المعجِز الذي تستحيل معه الحركة طيلة فترة الحيض (يسألونك عن المحيض، قل: هو أذى) أدركت جيدا هذه الآية الكريمة، وكنت في كل شهر أذوق من هذا الأذى أصنافا ودرجات، في كل شهر أقول هذه هي إذن: نهايتي، ثم أعود.
ولجت الوظيفة العمومية من باب التعليم. المهنة التي اخترتها بحب وبطموح عال ورسالة نبيلة أؤمن بها، ثم كانت الانتكاسة. قضيت خمس سنوات من الموت بالتقسيط غير المريح في البيضاء حيث تم تعييني أول مرة. هناك حيث أواجه الموت وحيدة غريبة عاجزة، لولا بعض الأصدقاء الذين بدأوا يتناقصون ويتراجعون شهرا بعد شهر. من يصبر على هذا الشقاء الدوري؟ مورِست عليّ ضغوطات رهيبة من قبل مدير المؤسسة التي اشتغلت بها، حتى أنني فكرت مرارا في تقديم استقالتي، لم أجد أدنى تفهم للحالة. التغيب كل شهر لثلاثة أو أربعة أيام كان يثير ضغائنه واستفزازاته وتحريضه المتكرر للجهات المسؤولة بالمديرية وهيئة التفتيش، علما أن مدة الراحة التي ينصحني بها الطبيب تتجاوز الأسبوع، لكني وحرصا على مصلحة المتعلمين أقبل بالأقل. جاء الانتقال إلى مدينتي بعد معاناة سوداء، ثم وجدت هنا الحال أسود مما كان عليه هناك، فأدركت أن الأمر لا ينبغي السكوت عنه، وأخذت على عاتقي مسؤولية هذا المرض والتعريف به وإيصال صرخات المريضات اللواتي يصرخن في صمت فيرتد الصدى إلى الداخل مخلفا انتكاسات نفسية وصحية واجتماعية. ربما لولا هاته المعاناة التي عانيتها في محيطي العائلي والاجتماعي والمهني من استخفاف واستهزاء وتمييز ورفض، لكنت اليوم مجرد مريضة. لكن تلك المعاناة جعلتني أعتبر نفسي حاملة لرسالة ولست مريضة فقط، والرسالة هي أن يلتفت المجتمع العربي عموما والمغربي خاصة إلى هذا المرض الذي يقتل المرأة ببطء ودون أن يدري به أحد. نعم هو قاتل، يقتلنا معنويا قبل أن يقتلنا ماديا. أسر فُككت وعائلات شُردت، ونساء انتحرت بسبب هذه المعاناة التي لا يعرف عنها أحد. حتى في علم النفس تؤخذ المعاناة على محمل الجد عندما تكون متكررة ومستمرة، فما بالك لو كانت المعاناة تتكرر كل شهر، ما بالك لو كانت تتكرر كل شهر بشكل أعنف ، أسرع وأشرس.
وضعت يدك على الجرح. حسب تجربتي الشخصية، نسبة قليلة جدا من الأطباء من تهتم ببطانة الرحم المهاجرة أو تعرف عنه بشكل جيد. نسبة قليلة جدا منهم تضع احتماليته في قائمة الاحتمالات عندما تعرض عليها حالة مشابهة. نسبة قليلة جدا منهم تدرك خطورته على صحة المرأة وعلى وضعها الاجتماعي وعلى نفسيتها. من بين عشرات وعشرات الأطباء الذين ترددت عليهم طيلة عشرين سنة من المرض، عدد الأطباء الذين يدركون ما الذي يمكن للبطانة المهاجرة أن تفعله بامرأة لم يتجاوز أربعة أطباء أستطيع ذكرهم واحدا واحدا. علما أن المرض ليس نادرا ولا حالة شاذة، بل هو مرض منتشر بكثرة ويصيب أزيد من عشرة بالمائة من النساء في مرحلة الخصوبة. هذه إحصاءات رسمية، علما أن متوسط اكتشاف المرض عالميا يستغرق مدة تصل إلى عشر سنوات أو أكثر. أعتقد أن الناقوس ينبغي أن يدق وبقوة، ولا أعرف في مجتمعنا هل أوجه كلمتي للأطباء الذين يستخفون بهذه الحالات حتى تتفاقم ويصعب معها إيجاد حل، أم إلى الإعلام الذي يتغاضى كليا عن هذا المرض (على سبيل المثال لا الحصر هناك عشرات الحلقات على القنوات المصرية خصصت لهذا المرض بينما هنا في المغرب لا نكاد نجد أي اهتمام لا كبيرا ولا صغيرا به) إذن هناك تعتيم إعلامي كبير وتعتيم طبي وندرة في الأبحاث الخاصة بهذا المرض، باختصار، لا تحظى بطانة الرحم المهاجرة مرضاً ومريضاتٍ بأي عناية أو رعاية رسمية من الجهات المختصة. وتظل الصرخات مكتومة في صدور المصابات، تمزق أرحامهن وأنفسهن، ليس هناك أي تعويض أو تغطية، العلاج الذي نتبعه لا يتم التعويض عليه (علاج يومي مكلف) المرض لا يدخل ضمن الرخص الطبية المتوسطة ولا الطويلة وبالتالي كل تغيب عن العمل يستدعي الاقتطاع (تلك قصة أخرى)، المرض يتطلب زيارات متكررة لأطباء من تخصصات مختلفة بحكم أن المرض ينتشر خارج الرحم ويصيب أعضاء أخرى من الجسم. لذلك هي معاناة مستمرة ومتنوعة ومباغتة. معاناة جسدية ونفسية واجتماعية ومهنية ومادية..
“نكاية في الأستروجين”
كيف تواجه شاعرة بالهشاشة المفرطة للشعر مرضا بهذه القسوة، أي حياة هاته التي أعيشها معلقة بين دورتين؟ رهينة الألم.. طوع يديه.. وبين فكيه.. يحكم القبضة.. ثم يرخي.. تعصف يد الألم بي ثم يمرر الأمل أصابعه الخفيفة على السواد.. أغفو ثم أصحو.. أهلك ثم أنجو.. أذهب ثم أعود.. “حي وميّْت”.. هذه الدوامة كيف كنت لأتحملها لولا الشعر؟.. كيف تحملتها بكل هذا الشعر الذي فيّ؟ أنا نفسي أسأل.
هذا الديوان هو وليد التجربة.. و” التجربة أنا” كما يقول السرغيني (محمد علال السرغيني هو شاعر وناقد مغربي).. كل حرف في “نكاية” كتب بالدم النازف.. والألم الجارف.. والأمل الخفيف المتأرجح بينهما.. قليلة هي التجارب الشعرية التي “تغنت” بالمرض…هذا أحدها. نعم نتغنى بالمرض كي نستطيع الصمود .. نعم نحتفي بالحياة نكاية في كل ما يصيبها في مقتل.. نعم نكتب.. بالكتابة أكون وللكتابة كنت.. “نكاية في الأستروجين” هذا الجبار المفرط في غوايته وجبروته.. أتشبث بالحياة بالرغم من السواد المحيط بها من كل الجهات.. “نكاية” إن كان رسالة فهو رسالة أقول من خلالها: نعم.. أستطيع.. أستطيع أن أُخرِج من كل تلك البشاعة هذا الجمال أن أحول الضعف قوّة.. أن أحول الألم إبداعا.. ألم يكن الألم دائما مادة الإبداع الأولية المشتهاة؟ إن كان “نكاية” رسالة فهو رسالة أقول من خلالها: أيتها الحياة sos أنا هنا لم أمت بعد.. إن كان “نكاية” رسالة فهو رسالة أقول من خلالها لكل الناس للمجتمع العربي والمغربي: نحن محاربات بطانة الرحم المهاجرة.. نحن هنا.. نستحق بعض الرحمة.. ارحمونا قليلا ولو أن تتركونا نعاني مع مرضنا دون أن تزيدوا إلى معاناتنا معاناة أخرى.. نحن هنا نستحق الكثير والمزيد من الحب والاحتواء.
نعم، ليس سهلا أن تكوني أنثى عموما. الأنثى في كل الكائنات تعاني أكثر وتتحمل أكثر، وتحمل فوق ما تطيق. تحتاج المرأة في هذا العالم أن تخوض دائما معركة إثبات الذات، لا لنقص فيها تعوضه أو خلل تسده، ولكن للتراكمات التي ترسخت في اللاوعي الجمعي عن نقصانها ومقارنتها غير العادلة بالرجل. هذا الأمر أوضح ظهورا وترسخا في مجتمعاتنا العربية الهشة المصابة بأمراض التخلف الفتاكة من جهل وفقر وحروب وصراعات طائفية ودينية وسياسية وغيرها. في بيئة غير سوية مثل هذه يصبح حملك لمرض بطانة الرحم بكل أهواله، وتبعاته على كل المستويات ونجاحك في العيش معجزةً كبرى.
فلو أنها نفس تموت جميعةً// ولكنها نفسٌ تسَّاقط أنفسا
بهذا البيت لامرئ القيس صدرت ديواني ” نكاية في الأستروجين” لم أختره عبثا، ولكن لدلالته العميقة. ربما يكون الموت الذي يأتي دفعة واحدة قاسيا، ولكن أشدّ منه قسوة الموت الذي يأتي على دفعات، بالتقسيط غير المريح، تجد نفسك وجسدك غارقا في ظلمات بعضها فوق بعض، لا تكاد تجد منها مخرجا، تحتاج لقوة خارقة كي تحافظ على قدرته على رؤية بعض الضوء في النفق، أن تخترعه إن لم يكن، أن تصنعه وتعيش به.. وعلى أمله. أما أن تحافظ على توازنك مع كل هذا فهذا ما أعتبره إنجازا يستحق الاحتفاء.