الرئيسية

هوامش تلتقي سجينا مغربيا سابقا بأوكرانيا .. من السجن إلى أيدي المافيا: أسابيع في جحيم الاختطاف

"خالد" اسم مستعار، لشاب مغربي من بين المئات الذين اختاروا الهجرة السرية ، للوصول إلى أوروبا بحثا عن مستقبل أفضل . استقر به المقام في أوكرانيا بعد تنقلات عدة، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن ، حيث مضى على وجوده هناك أقل من عامين ليعتقل بسبب حادثة سير غيرت مجرى حياته.

 بعد اندلاع الحرب بحوالي شهرين يحكي” خالد” في حديث لمنصة هوامش، عن معاناته بعد أن هٌجّر قسرا مع مجموعة من المعتقلين من جنسيات عربية مختلفة إلى الحدود، حيث وقع بين أيدي عصابات احتجزته قبل أن يتمكن من النجاة بمساعدة صديقه الإيطالي الذي أدى عنه مبلغ الفدية .

حسناء عتيب

 لم يتوقع “خالد” البالغ من العمر 33 سنة، أنه سيعاني الأمرين بعد الحرب التي جعلت منه أسيرا لدى عصابات في كل مرة يتحدث أفرادها بلغة مختلفة، فمرة  الأوكرانية ومرة الروسية ومرات عديدة اللغة الإنجليزية. “من الصعب التكهن بجنسياتهم” يقول “خالد”، ولا التعرف عليهم حتى لو التقيت بهم، كانوا يخفون وجوههم وكلماتهم قليلة.

 “قبل المعاناة، كنا نعيش في راحة تامة داخل السجن. على الأقل كنا نعيش بكرامة ، كنا نتصل بأهالينا وأصدقائنا، كنت أعد الأيام والليالي فلم يتبقّ حينها على نهاية عقوبتي الحبسية إلا أشهرا قليلة”،  يحكي خالد بتوتر ، “لكن وما إن أعلنت الحرب حتى انقلبت حياتي وحياة من معي رأسا على عقب”. 

يسترجع محدثنا اللحظات وكأنها تحدث للتو “في منتصف ليلة باردة، لازلت أذكرها وكأنها كانت بالأمس،  فٌتح باب الزنزانة بعنف مقصود، أخرجونا الواحد تلو الآخر، وسلّموا لكل واحد منا الملف الذي يتضمن عقوبته، وكل المعلومات الشخصية عنه، وأخبرونا بأنه في حالة ما إذا ضاع منا الملف، فعلى أرواحنا السلام”.

أشد ما كان يؤرق خالد وزملاءه من المعتقلين هو المجهول الذي يسيرون إليه “خرجنا من باب السجن وبالبال ألف سؤال،  فلم يخبرنا أحد عن سبب الترحيل، كانت هناك شاحنة سوداء في انتظارنا، صعدنا على إيقاع الضرب والركل.  في أقصى الشاحنة،  توجد نافذة صغيرة ضيقة بالكاد يدخل منها الهواء، وبداخلها تكدّسنا مثل البضائع”. 

يتذكر خالد تفاصيل تلك الرحلة ويسردها بصوت يحكي مرارة الألم الذي عاشه هناك:” كنا حوالي 36 فردا، رجالا ونساء وأطفالا من مختلف الأعمار والجنسيات، لم يكن يسمع صوت الأنين الناتج عن الضرب الذي تلقيناه دون سبب”.

انطلقت الشاحنة في الظلام الدامس، وفي وقت وجيز، بدأت الشاحنة تطوي المسافة غير مبالية بالحجارة التي كانوا يسمعونها تسحق تحت العجلات. “كان كل واحد منا يضم ملفه، يحمل حياته بين يديه في انتظار من يدفع عنه من عائلته أو أصحابه ثمن خروجه من الجحيم”.

يومان من الجوع والترهيب

“كل ساعتين، كانوا يرمون لنا قارورة ماء من سعة لترين، كل واحد منا يرتشف منها رشفة كي يقاوم الإغماء ويمررها على البقية. في بعض الأحيان، حينما كان يسقط بعض منا مغشيا عليه، كانت تتوقف الشاحنة، ينزلونه ثم يسكبون عليه الماء، لكن في كثير من الأحوال، كان المعتقلون يتظاهرون بالإغماء” يقول خالد. 

بعد مسيرة يومين، توقفت الشاحنة في غابة كثيفة الأشجار، على بعد 3 أمتار، ظهر منزل كبير يمتد على مساحة شاسعة يحيط به سور عال، يقف على جنباته رجال مفتولو العضلات،  ملثّمون ومدجّجون بالأسلحة. يحكي خالد: ” ونحن نستعد للدخول، فر واحد ممن كانوا معنا في الشاحنة، عرفنا فيما بعد أنه أوكراني الجنسية، أطلقوا خلفه الكلاب فأدركته ونهشته إلى أن مات، قاموس الرحمة غير موجود في معاملتهم”.

بعد حصة الترهيب أنزل المختطفون المساجين من الشاحنة، هنا سيدركون أنهم تحولوا إلى رهائن في أيدي مافيا عابرة للجنسيات “أدخلونا  الواحد تلو الأخر بالضرب مرة أخرى، في غرفة مزدحمة وجدنا بداخلها العشرات من المعتقلين من كل الجنسيات، غرفة مظلمة وقذرة، يبدو جليا أن أشعة الشمس لم تزرها يوما. أما بخصوص الأكل، فكان شريحة من الخبز بحجم قضمة، وقليل من الزبدة كل 24 ساعة” يحكي محدثنا بمرارة.

كان دخول البيت المرعب أشبه بالدخول إلى الجحيم، فهناك تكتب فصول جديدة وتحدد مصائر الرهائن، يقول خالد “فور وصولنا، تواصلت رحلة سوء المعاملة، الضرب بوحشية والسب والشتم والتحرش بالنساء ونزع ملابسهن، حتى المرافقات لأزواجهن، لم يسلمن من التحرش والاغتصاب. لم يكن ينجو من المهانة والضرب والألم،  إلا من كانوا يعرفون مسبقا أن هناك من سيؤدّي عنه الفدية”.  

تجارة الأعضاء البشرية

الوقوع في أيدي المافيا أشبه بالدخول إلى مسلخ، حيث الجزارون يسنون سكاكينهم أو ينفسون غضبهم بالتسلي في ما حولهم، وفي خضم هذا الهول يبحث الرهائن عن السلوى في بعضهم، “كنا نسلي أنفسنا بالتعرف على بعضنا البعض ولا يقطع أحاديثنا سوى صرخة طفل أو توسل امرأة لينتهي الأمر بطلقة نارية، وبعد لحظات يٌسمع صوت سيارة تتحرك وتنطلق مبتعدة عن المكان مخلفة حزنا وألما ونقصا في العدد” يحكي خالد.

وحيث أن الرهائن يعتبرون أضاحي، الغاية منها الحصول على المال، فإن المتضررة يتم التخلص منها بدم بارد، يقول خالد “في كل يوم كان يتحدث إلينا شخص من جنسية مختلفة، وبكلمات متقطعة وتحت تهديد السلاح، نفهم بعضه ولا نستوعب الباقي، أصيب الكثيرون إصابات خطيرة بسبب العنف، ومن لم يتمكن جسده من التعافي كانت أسلحتهم النارية تنهي حياته في رمشة عين”.

وسط هذا الهول اكتشف الرهائن أنهم مصدر للمال سواء كانوا أحياء أم أموات، فإما سيتم الحصول على المقابل بتسليمهم “جملة” أو أنهم سيباعون بالتقسيط، “للحظات كنا نظن أن الأمر ينتهي بموت المعتقل، رجلا كان أو امرأة أو طفلا، لكن الأمر كان معقدا جدا، حيث علمنا بعد ذلك أنه بالإضافة إلى المتاجرة في البشر ، كانت هناك أيضا تجارة الأعضاء البشرية، مع كل ساعة تمر كنا نعدّ معها ما تبقى من أعمارنا، فتتوقف عقولنا، لا نعرف هل مازال في العمر بقية أم أن رحلتنا ستنتهي هناك” يحكي محدثنا بألم.

ثمن النجاة

“أملكم الوحيد في الخروج، هو تأمين ألفي يورو، وإلا فالموت مصيركم”. بهذه الكلمات كانوا يذكروننا مع نهاية كل يوم ويتوعدوننا في المقابل بالاغتصاب مع كل يوم تأخير في توفير المال، كانت أيامنا شبيهة بما كنا نشاهده في أفلام العصابات، وأحيانا أخرى كانت أصعب وأصعب ، يصعب وصف ما كنا نعاني منه، كنا نعيش “الصّراط”، ربما هو المصطلح الأقرب لما كان يحدث”، يروي خالد بنبرة صوت أقرب إلى البكاء.

ويواصل محدثنا وصف الرعب الذي عاشه “هددونا في المقابل بالاغتصاب، ونفذوا تهديداتهم في الكثير من المرات على الرجال والنساء. لازلت أتذكر الشاب المغربي “أمين” من مدينة طنجة وقبله تونسي من مدينة سوسة، هذا الأخير من كثرة التعذيب كان يتوسل إليهم بتقبيل أحذيتهم أن يتوقفوا ، لكن إلحاحه لم يكن يزيدهم إلا تفنّنا في تعذيبه ليزجّوا به في آخر المطاف في غرفة مجاورة ويتناوبوا على اغتصابه إلى أن فارق الحياة”.

الأسابيع التي قضاها خالد لدى المافيا لا وصف لرعبها وألمها، كان عليه أن ينتظر إلى أن يهبّ صديق إيطالي لنجدته ويدفع عنه مبلغ الفدية، “ثلاثة أسابيع عشتها هناك وكأنها الدهر. أنا مدين لصديقي الإيطالي بالكثير، فقد عدت إلى الحياة بعدما فقدت الأمل تماما، ففي كل يوم كنت أتوقع موتي وأتخيل سيناريوهات مختلفة لنهايتي. العديد من المعتقلين من جنسيات أخرى، مازالوا عالقين في ذلك المنزل “الرهيب”، وغيرهم الآلاف فلتكن رحمة الله معهم”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram