الرئيسية

حكاية “المسيد”.. حين يتلاشى الدور الديني لصالح ثقافة الخوف والخنوع

اعتقلت شرطة مدينة طنجة، إمام مسجد يبلغ من العمر 44 عاما، يشتبه في تورطه في اعتداءات جسدية على أطفال قصّر، داخل قاعة تربوية مخصصة للتعليم العتيق بمنطقة باب تازة. وتحركت المصلحة الولائية للشرطة القضائية بعدما انتشر شريط فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يوثق عملية ضرب عدد من طلاب التعليم العتيق، يشرف عليها شخصان، بينما يوثق شخص ثالث عملية الإعتداء المسماة في الدارجة المغربية "الفلقة"، وهي عقوبة منتشرة بين فقهاء التعليم العتيق، يقصد بها الضرب بعصا أخمص أقدام الطلاب.

مروان المودن

فرض التعليم القرآني 

خلال الستينيات من القرن الماضي كلف الحسن الثاني الأستاذ محمد شفيق بإنجاز تقرير حول الكتاتيب القرآنية. بعد إنجاز الدراسة تبين أن الطريقة التقليدية المعتمدة في التلقين داخل الكتاتيب، تشكل خطرا على جيل بكاملة، وأوصى محمد شفيق أن يلغى المسيد، لكن الحسن الثاني، قرر عكس ذلك فيما بعد. أما محمد شفيق، بعد أن أصبح عضوا في أكاديمية المملكة، أعد عرضا حول الكتاتيب القرآنية، استند فيه على شهادة مثقفين مصريين معروفين هما : طه حسين وحسن الزيات، وعلى المغربي التهامي الوزاني، والذين وضحوا له، كما أشار في شهادته، أنّ هذا التعليم يدمّر الشخصية. وقال محمد شفيق  “إنّ «المْسيد»، مع ما يرسخه من ثقافة الخنوع وانعدام الشجاعة الفكرية، هو الذي وفر للمخزن خدامه المفضلين. وبعبارة أخرى، فإن فلسفة السلطة المخزنية التاريخية، تنسجم انسجاما كبيرا مع الفلسفة البيداغوجية للمسيد. هذه الفلسفة التي تجسّد، من بين ما تجسّده، ضرورة أن تكون الأعين منخفضة أمام السيد للكلام أو الإنصات. ومن شأن هذا أن يبين، من الناحية الثقافية، ما أحدثه التعليم التقليدي من أضرار”.

ثقافة الصمت والخوف والخنوع

تنتشر الكتاتيب القرآنية، التي تعمل على تلقين الأطفال آيات من القرآن بأساليب تقليدية متوارثة منذ القدم، بشكل كبير بالمغرب، واحتفظت هذه الكتاتيب بالوسائل التقليدية للتلقين، إذ أن كل ما يحتاجه الطالب هو “لوح خشبي” للكتابة، ومادة “السمخ” وهو تركيبة تعد بطريقة معينة لتشكل الحبر، وقطع من “الصلصال” الذي يستعمل لمسح اللوحات المستعملة. ويحتفظ كل الفقهاء المدرسين بلباسهم التقليدي وبالعصا الطويلة، التي تستعمل في كثير من الأحيان لضرب رؤوس طلاب ، يحملون ألواحهم وهم جالسين القرفصاء أمام الفقيه في صفوف تشبه تلك التي تكون في المساجد أثناء إقامة الصلاة. 

وتوارث الفقهاء، جيلا بعد جيل، طرق التلقين التقليدية هذه، والمعتمدة على الحفظ، على مر التاريخ. ويحظى الفقيه، بين صفوف الطلاب الصغار، بهيبة كبيرة وبصرامة منقطعة النظير، فبعد دخوله إلى الغرفة المفروشة بالحصير، يعم الصمت والخوف والخنوع.   

سيعرف “المسيد” تحولا كبيرا إبان ستينيات القرن الماضي، بعد أن ألقى الملك الحسن الثاني، خطابه الشهير الذي أمر فيه بتعميم التعليم القرآني بالمغرب، بين 5 سنوات إلى 7 سنوات. وقرر الملك حينها أن يدرس كل تلميذ بشكل إجباري في ”المسيد” لمدة سنتين، حتى يحصل على  أسبقية للدخول إلى المدارس الحكومية، بغض النظر عن الحالة الاجتماعية للأسرة. 

وقرر الملك أن يلج ولي عهده حينها، محمد السادس، المدارس القرآنية. ويرد بعض المحللون ذلك إلى رغبة الحسن الثاني مواجهة المد اليساري وحزب الاتحاد المغربي للقوات الشعبية، وهو ما عبّر عنه الحسن الثاني في ندوة صحفية جوابا على سؤال صحافي ”أتريد مني أن أعزز صفوف معارضتي اليسارية”. 

النظام التقليدي والثقافة 

كان لتعميم المسيد أثرا سلبيا على جيل الثمانينيات، والتسعينيات، فكان الكثير منهم قد رحل إلى أفغانستان أو فيما بعد إلى ما سمي بالدولة الإسلامية. وقد تشكّل حكم الحسن الثاني على أرضية تقليدية قائمة على التعليم الديني.  وهو ما يكشفه السوسيوجي “جون واتربوري” في كتابه “الملكية والصراع على السلطة”  إذ يؤكد أن طبيعة الحكم في المغرب مرتبط بالنظم التقليدية للمجتمع، اعتمادا على نموذج إمارة المؤمنين. ووقف أيضا الصحافي إنياس دال في كتابه «الحسن الثاني بين التقليد والاستبداد»، عند  الصورة الثنائية لعلاقة الحسن الثاني بالمثقف المغربي، وكشف أن الملك يعشق الأدب والثقافة في الوقت الذي يحارب فيه المثقفين ويهمش دور العلوم السياسية، خاصة بعد إغلاق أكبر معهد للسوسيولوجيا في أفريقيا، وهو المعهد الكائن بالرباط، وزيادة حصص العلوم الإسلامية وتقليص حصة الفلسفة في الثانويات. غير أن الحسن الثاني عبر بشكل علني عن عدم رغبته في تعليم أبناء شعبه لما لذلك من خطر على الحكم، وذلك في جوابه على سؤال الصحافي  الفرنسي جان دانيال.  وهو ما يبرر في الوقت نفسه تعميم المسيد الذي يقضي على أي حس نقدي لدى الطلاب. 

الملك محمد السادس عندما كان وليا للعهد في المسيد

تجربة مع المسيد  

 بعد انتشار شريط فيديو نهاية الأسبوع الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي، انطلقت دعوات لمحاسبة ما وصفه البعض بـ”المتورطين في بالتعذيب”.. ونشر بعض رواد مواقع التواصل الإجتماعي تجاربهم مع هذه المدارس العتيقة. ولا تخلو هذه التجارب من قصص مؤلمة وأخرى مضحكة مع التعليم القرآني العتيق. 

منعم المساوي قال في تدوينة له “لم أدخل المسيد إلا مرة واحدة، وهي أول وآخر مرة، دخلتُ ووجدت الفقيه داخل المسجد مع المتعلمين وبيده عصا طويلة، فرجعتُ مباشرة إلى منزلنا، وكانت آخر مرة. وبعد سنوات وجدتُ نفسي حافظا للقرآن أكثر بكثير من أقراني ممن كانوا يحفظونه مع السي الفقيه بالعصا”.

وقالت الناشطة الريفية نوال بلعيسي التي تقطن حاليا في هولندا “يلقنون الطفل الكراهية والبغض والحقد منذ نعومة اظافره بحجة تحفيظه القرآن والدين… يصنعون مرضى من براءة، أريد أن أحكي عن  كيفية التعليم هنا  بأوروبا وكيف يحبّبون الأطفال في المعرفة سواء عن الأديان أو العلم  فخجلت من الحروف أن تنطق من شاشة هاتفي وتسخر مني”.

وقال خالد البكاري هل بالفعل يعتقد جيلنا (السبعينات والثمانينيات) أنه جيل مثالي وأن بناءه النفسي سليم؟ سنوات من التدمير للأخلاق والقيم والشخصية بالعصا، وسنوات حالية من مواصلة التدمير بالعصا في مناطق، أو التدمير بالتسيب والفوضى  في مناطق اخرى… شخصيا، باعتباري واحدا ينحدر من جيل، تم تجريب كل أسلحة الدمار الشامل تربويا في حقه (على المستوى البدني والنفسي)، في كل الفضاءات .. اكتشف أعطابا نفسية كثيرة حين أكون في مواجهة وضعيات تواصلية “متوترة”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram