انخرط المغرب غداة الاستقلال في تدشين سياسة ما عرف بالسدود الكبرى، كما فوت في البداية ما قدره 320 ألف هكتار من الأراضي في إطار قانون المغربة وتم إسناد إدارة هذه المساحة من الأراضي بشكل مؤقت إلى شركتين عموميتين “صوديا” و”سوجيطا”، في حين فوت الجزء الكبير من الأرض إلى بعض الأعيان والوجهاء ومسؤولين في السلطة والمال وشركات قوية مثل شركة “الأملاك الفلاحية” أو شركة “زنيبر”، وشركات أجنبية على امتداد الخريطة.
اتجهت هذه الطبقة إلى الاستعمال المفرط للمياه، وانخرطت في سياسة تصديرية أدت إلى اكتساح مساحات متجددة خاصة بالحبوب والحوامض والخضروات. “وارتكزت أولويات الدولة المغربية إبّان الاستقلال على تزويد السوق الأوروبيّة بنفس المنتجات الزراعيّة الأولية التي كان الاستعمار الفرنسي ينتجها”. ومن أجل تسهيل عمليات استغلال المياه سنت تشريعات تسمح لها بالتوسع دون مراعاة التوازنات الايكولوجية والبشرية.
بدأ العمل بما سمي بالمغرب الأخضر في عام 2008 وانطلقت عملية دعم زراعات دخيلة على الواحات أبرزها البطيخ بشقيه الأصفر والأحمر. خصصت له في البداية مساحة لا تتعدى 400 هكتار بمردودية فاقت تصورات المتدخلين من 80 ألف إلى 120 ألف درهم للهكتار الواحد.
وساهم استعمال تقنيات جديدة، بشكل فعال، في هذه المردودية المرتفعة. استمر نمو المساحات المخصصة لزراعة البطيخ بشكل كبير لتتجاوز نهاية عام 2020، ما قدره 15 ألف هكتار. وأشار السكان المحليون أن الزراعة قامت باستنزاف سريع للثروة المائية النادرة في الأصل. ( مناخ صحراوي، بارد، شتاء، وحار في الصيف مع تساقطات موسمية ضئيلة إلى منعدمة (ما بين 54 ملم إلى 74 في السنة). بالإضافة إلى أن المغرب يعرف عموما ندرة في المياه، وتعتبر الموارد المائية به أندرها في العالم، فوفق إحصائيات رسمية يتوفر المغرب على 22 مليار متر مكعب في السنة، وهو الرقم الذي اعتبرته وزارة التجهيز والماء في وقت سابق أضعف نسبة لكل نسمة.
ففي شهر غشت من العام الماضي مثلا عانت دواوير كثيرة في جماعات المعيدر الخمسة ( تازارين، أيت ولال، النقوب، تاغبالت، أيت بوداود) (عانت) الأمرين بسبب الخصاص المهول في الماء، اعتمدت جماعات توزيع الماء على بعض دواويرها بواسطة صهاريج، كما نشطت تجارة الماء أيضا خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يملكون إمكانيات شراء شحنات إضافية من الماء عند الخواص، سيما الذين نظموا أعراسا أو مناسبات عائلية. ولم يستفد من زراعة البطيخ سوى فئة قليلة من الفلاحين المدعومة من الدولة. و”انخرطت هذه الأقلية في هذه الزراعات الموجهة للتصدير على حساب الواحات التقليدية وساكنتها، في حين صار مآل بعض الفلاحين الصغار إلى الإفلاس لأن العرض تجاوز الطلب الداخلي بكثير” كما يقول أحد الساكنة لهوامش.
في ما يخص إنتاج البطيخ، كان المغرب يحتل المرتبة 24 عالميا في بداية الألفية وارتقى خلال العشرية الثانية في الألفية الجديدة إلى المرتبة الثامنة وخلال السنوات الثلاثة الأخيرة إلى المرتبة الخامسة محققا بذلك أرقاما بدأت بـ 470 مليون درهم في 2008 لتصل إلى زهاء 2,5 مليار درهم سنة 2020، وهذا كلّف الفرشة المائية غاليا. ويكلف إنتاج كلغ من البطيخ زهاء 45 لتر من الماء، أي أن بطيخة واحدة بوزن 10 كلغ تكلف ما بين 450 لتر من الماء في حال استعمال الري التقطيري، فيما يصل الأمر إلى حوالي طن من الماء بطرق السقي التقليدية.
”هذه المليارات من الدراهم تدخل جيوب قلة قليلة من منتجي البذور وبائعي المواد من اسمدة وادوية إضافة إلى قلة من التجار والسماسرة” يقول أحمد أحد سكان المنطقة. ولا توفر هذه المنتوجات سوق عمل قارة ولا عائدات على ساكنة المنطقة، حسبه، ويرى أحمد أن منطق التصدير والمنافسة يقضم الأساسي من العائدات في حين يذهب الباقي إلى المضاربات العقارية في كبريات المدن المغربية.
تصدير البطيخ وإنتاج العطش
وفي الوقت الذي يمر فيه المغرب من أصعب فترات جفافه، ما تزال هذه المناطق النائية الهامشية تصدر أطنانا من البطيخ الأحمر إلى أوروبا، بينما تعيش الساكنة أزمات عطش ورحلات طويلة بحثا عن الماء الشروب ونشب عن ذلك تظاهرات خلال سنوات 2017- 2020- 2021.
وإذا أخذنا نموذج جماعة أيت بوداود بزاكورة مثلا، فإن دواوير مثل سردرار، أيت أولحيان أيت عثمان، تاكلكولت، وشمال أمراد، أقوج وترݣا نايت إزو كلها تعاني من مشكل الخصاص في المياه هذا الصيف، وبحسب “ب ل” وهو من ساكنة أيت أولحيان فإن البئر المخصصة لمياه الشرب بالجماعة تغطي حاجيات الساكنة شتاءً، حيث تلبي 100% من حاجيات الجماعة من شهر نونبر إلى شهر مارس، وتبدأ في التناقص مع ارتفاع درجة الحرارة وازدياد حاجة الناس للماء، وكذلك لازدياد أعداد السكان في الصيف حيث العطل والمناسبات. نفس المتحدث أكد أن هذه البئر تغطي فقط 30 في المئة من حاجيات الساكنة صيفا.
لقد كان المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (رسمي)، حذر من حالة ندرة المياه في المغرب، لأن الموارد المائية تقدر حاليا بأقل من 650 متر مكعب للفرد سنويا، مقابل 2500 متر مكعب في سنة 1960، وستنخفض عن 500 متر مكعب بحلول سنة 2030.
في هذا الإطار تلقت الوزارة المعنية سؤالا رقمه 3159 في البرلمان، لم تقدم عليه أي إجابة لحدود كتابة هذه الأسطر، أشار السؤال إلى أن التغيرات المناخية يمكن أن تتسبب في اختفاء 80% من موارد المياه المتاحة في المملكة خلال 25 سنة القادمة. كما أن سنوات الجفاف المتتالية قد زادت من حدة ندرة المياه، وتعتبر هذه السنة من أقسى مواسم الجفاف التي شهدها المغرب منذ الثمانينات. ومن بين الإجراءات التي اتخذت، “بناء وحدة لتحلية مياه البحر بأكادير لتأمين الري في سهل اشتوكة عن طريق تحلية مياه البحر بدلا من استعمال المياه الجوفية وكذا تزويد أكادير بالماء الصالح للشرب”. في هذاالشأن، سأل البرلماني محمد البوعمري عن ما هي استراتيجية الوزارة الوصية للاستفادة من مشاريع لتحلية مياه البحر في كافة ربوع المملكة؟
وفيما لم يتلقى البرلماني أي اجابة، تستمر عمليات إنتاج البطيخ وسط انتقادات المجتمع المدني المحلي الذي يعتبرها “قاتلة للبيئة والإنسان”. وفي الجهة المقابلة يبقى رأي المنتخبين المحلين غامضا ويصل في بعض الأحيان إلى ”التشجيع”. ويعكس ذلك الاجتماعات القليلة التي تعقد لتدارس أزمة المياه، حيث نظم اجتماع وحيد في في الرابع من شهر يناير 2022 الماضي، في حين أن حقول البطيخ تجاوزت مرحلة الحرث بكثير. وخرج الاجتماع بخلاصة واحدة ”القيام بزيارات ميدانية” حسب ما توصلت به “هوامش” من معلومات من مصادر كانت حاضرة.
في حديثنا مع أحد الفلاحين يرى أن خضرة مساحات البطيخ يقابلها اصفرار وشحوب الواحات التقليدية وتسمم الأراضي وتعميق ثقب الماء التي فاقت اليوم عمق 200 متر وهذا الرقم مرشح للارتفاع إلى حالة النضوب الكلي. ويرى الفلاح أن مزارعي البطيخ يتصرفون بعقلية ”الأرض المحروقة” نظرا إلى إفقار التربة وتسميمها ويلجؤون إلى مساحات جديدة لإعادة نفس الإنتاج، “فما سبق وتم التعامل به مع سهول سوس وماسة يجري التعامل به اليوم مع أقاليم الجنوب الشرقي والمساحات تمتد اليوم إلى فم زكيد وطاطا وآسا الزاك في سلسلة لامتناهية في حين تصير واحات النخيل المقتصدة للماء والأكثر تأقلما مع المناخ إلى مقابر صفراء تغزوها بين الفينة والاخرى دورات حريق حيث تتطلب مئات السنين من العمل لمقاومة التصحر” يقول المتحدث.
وتراجع في الأونة الأخيرة مخزون السدود المغربية من 49% إلى 46% السنة الماضية، مخلفة التفاوتات المجالية ما بين الملوية وتانسيفت ووادي درعة وزيز. إذ يصل منسوب المياه بسد المنصور الذهبي إلى أقل من 11% مما ينعكس على تشغيل الطاقة الشمسية والإجابة عن حاجيات الساكنة. وتراجع مخزون المياه عموما بحوالي 70% ما بين 1950 و2020.