رغم مذكرات النيابة العامة التي تدعو وكلاء الملك إلى ترشيد الاعتقال الاحتياطي إلا أن المعطيات التي كشفت عنها المندوبية العامة للسجون مؤخرا أظهرت أن “44.56” في المائة من الساكنة السّجنية معتقلون احتياطياً، وهو رقم ضخم خصوصاً في ظل الاكتظاظ الذي تعاني منه السجون المغربية.
الاستثناء تحول لقاعدة في الوقت الذي اعتبر فيه المشرع المغربي أن الاعتقال الاحتياطي هو إجراء استثنائي يتم اللجوء إليه في حالة التلبس أو خطورة الفعل الجرمي أو انعدام ضمانات الحضور للمحاكمة، أصبح الاستثناء هو القاعدة، وهو ما يضع منظومة العدالة في المملكة في تحد كبير لتدبير هذا الملف.
وفي هذا الصدد يحمّل محمد الزهاري الفاعل الحقوقي مسؤولية ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي إلى النيابة العامة وقضاة التحقيق قائلاً :”تحاول النيابة العامة تبرير ارتفاع عدد المعتقلين بتحميل المسؤولية لقضاة الأحكام، في حين أنني اعتبر أن المسؤولية تتحملها بالدرجة الأولى النيابة العامة وقضاة التحقيق باعتبارهما الجهتَين صاحبتَي اليد الكبيرة في مجال الأمر بالإيداع في السجن.”
وبالرجوع إلى المعطيات الإحصائية المنشورة في موقع رئاسة النيابة العامة يتبين أن أزيد من” 4000″ معتقل احتياطي أي “14” في المائة من مجموع الوافدين الاحتياطيين حصلوا على البراءة سنة 2015، واستقر الرقم في نفس العدد تقريبا للسنوات الثلاث التالية لينخفض إلى حوالي “2197” من الحاصلين على البراءة، ويفسر الزهاري هذا الانخفاض بكون “قضاة الأحكام أصبحوا يصدرون الحكم بما قُضي في حق المتهم”.
ويوضح الزهاري في حديثه لـ “هوامش انفو” أن “هذه الأرقام تؤكد بالفعل أن الاعتقال الاحتياطي يشكل اعتداء على حرية مجموعة من المواطنين الذين قضوا مدداً في السجن وفي الأخير يحكم لصالحهم بالبراءة”.
لم يعد خفيا على أحد أن من أبرز أسباب الاكتظاظ في السجون المغربية مردّه ارتفاع نسبة المعتقلين احتياطياً، وغير ما مرة من خلال تقارير مندوبية السجون يتم الإشارة إلى الآثار السلبية للاعتقال الاحتياطي على ظروف سجن النزلاء، كان آخرها خلال تقرير صدر بشراكة بين المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج ومركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية، حيث اعتبر أن ظاهرة الاكتظاظ ناتجة عن عدم التناسب بين الأعداد المهمة من المعتقلين الوافدين على المؤسسات السّجنية مع الطاقة الإيوائية المحدودة لحظيرة السجون الحالية بالرغم من مشاريع البناء التي أطلقتها المندوبية العامة من أجل الرفع من طاقتها الاستيعابية.
نفس الطرح تبناه الزهاري، حيث يرى أن “الاعتقال الاحتياطي يتسبب بشكل واضح في كارثة الاكتظاظ التي تجعل المساحة المخصّصة لكلّ معتقل تقلّ كثيراً عن المعايير الدنيا، بما يزيد تفاقم العنف داخل السجون ويجعل الولوج إلى الخدمات الصحية والعلاج محدوداً، وعملية التربية وإعادة الإدماج متدنية نتيجة ضعف البنى ونقص التجهيزات “، مضيفاً أن “هذا الوضع الذي يتقاسمه السجناء المحكومون والسجناء المعتقلون احتياطياً، يحوّل فضاء السجن إلى جحيم حقيقي يتكدّس فيه السجناء كسلعة لا كبشر”.
وشدد الفاعل الحقوقي أنه “لا بدّ من أن تُوفَّر للسجناء الكرامة الإنسانية بغضّ النظر عمّا ارتكبوه في حقّ المجتمع”.
وفقا للتقرير الذي أشرنا له سابقا فإن نسبة الاكتظاظ وصلت في سنة 2020 إلى ما يناهز (33) في المائة من الطاقة الاستيعابية للسجون، وأن المساحة المخصصة لكل سجين تقدر بمترين و2 سنتيمتر، واعتبر التقرير أنه “رغم مجهود تحسين الطاقة الايوائية لم تتمكن المندوبية من مجاراة نسبة زيادة الساكنة السجنية، وبالتالي أثر سلباً على مجهودات تحسين الظروف المادية للاعتقال وتأهيل السجناء بهدف اندماجهم في النسيج المجتمعي بعد قضائهم لعقوبتهم”.
ويرى التقرير أن “آفة الاكتظاظ لن تحارب بزيادة الطاقة الاستيعابية للسجون، وإنما بمعالجة أساسه الكامن في السياسة الجنائية وممارسة آلياتها انطلاقاً من إعادة النظر في فلسفة العقاب، وإيجاد بدائل فعلية للعقوبات السالبة للحرية، وتفريد العقوبة وتخفيضها والإفراج المقيد بشروط”.
لا تعويض للضحايا ارتفاع عدد المعتقلين الاحتياطيين الذين حصلوا على البراءة أو الذين قضوا في الاعتقال الاحتياطي أكثر من المدة التي حكم عليهم بها، جعل العديد من الفاعلين يطالبون بتعويض هؤلاء المواطنين عن الضرر الذي كانوا عرضة له، وفي هذا الشأن تقدم فريق حزب التجمع الوطني للأحرار في مجلس المستشارين في شهر دجنبر من السنة الماضية بمقترح قانون يسعى لتعويض المتضررين من الاعتقال الاحتياطي.
وينص المقترح على أنه “يحق لكل من قضى مدة تفوق (48) ساعة على الأقل في الاعتقال الاحتياطي، وحكم عليه بالبراءة أو تم الإفراج عنه دون متابعة، أن يطلب داخل أجل سنة من تاريخ الإفراج المذكور الاستفادة من تعويض كلي عن الضرر المادي والمعنوي المترتب له بسبب هذا الاعتقال الاحتياطي”.
في نفس السياق يعتبر الزهاري أن التبرئة بعد قضاء مدة في الاعتقال الاحتياطي، تدخل ضمن “الأخطاء القضائية التي تستوجب التعويض طبقا لمقتضيات الفصل (122) من الدستور المغربي القائل “” يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة”، لكن هذا مع كامل الأسف ما عاكسته بعض القرارات التي أصدرتها محكمة النقض في نوازل مشابهة”.
واسترسل الزهاري “إننا في الحركة الحقوقية اعتبرنا هذا المقتضى الدستوري مستجداً في غاية الأهمية، لأنه يدشّن لإقرار المسؤولية عن الأعمال القضائية، بعد مسيرة طويلة من الالتزام بقاعدة عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية، وعدم السماح بمساءلة مرفق القضاء تحت ذرائع مختلفة، وهو ما يتماشى مع المرجعية الدولية والتزام المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دولياً حيث أشارت إلى ذلك الفقرة السادسة من المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تنص على: “حين يكون قد صدر على شخص ما حكم نهائي يدينه بجريمة، ثم ابطل هذا الحكم أو صدر عفو خاص عنه على أساس واقعة جديدة أو واقعة حديثة الاكتشاف تحمل الدليل القاطع على وقوع خطأ قضائي، يتوجب تعويض الشخص الذي أنزل به العقاب نتيجة تلك الإدانة، وفقاً للقانون، ما لم يثبت أنه يتحمل، كلياً أو جزئياً، المسئولية عن عدم إفشاء الواقعة المجهولة في الوقت المناسب”، كما أكدت لجنة حقوق الإنسان في تعليقها العام رقم (32) على أنه: “من الضروري أن تقوم الدول الأطراف بوضع تشريعات تضمن دفع التعويضات التي ينص عليها هذا الحكم في غضون فترة زمنية معقولة.
وتابع المتحدث ذاته قائلاً :” إن هذا الأمر أصبح يفرض ترشيد الاعتقال الاحتياطي الذي يُعَدّ السبب الرئيسي في اكتظاظ السجون، وتعديل قانون المسطرة الجنائية، ليصبح اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي كحل أخير بعد استنفاد كلّ البدائل الأخرى المتاحة كالمنع من مغادرة التراب الوطني أو وضع المتهم تحت الرقابة الإلكترونية بوضع “السوار الإكتروني” مثلا أو الكفالات ،إضافة إلى تعويض الاعتقال بالغرامات، أو العقوبات البديلة الأخرى كالقيام بالأشغال”.
في الوقت الذي تتوجه فيه سهام النقد لمؤسسة النيابة العامة وقضاة التحقيق في أنهما سبب ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي، يرى المحامي محمد أغناج في حديثه لـ “هوامش أنفو” أن “المشكل قانوني بالأساس وليس مشكل تصرف النيابة العامة أو قضاة التحقيق”، مفسراً أن “اختلاف أسباب الاعتقال الاحتياطي، ما بين النيابة العامة وقاضي التحقيق تتجلى في أنه هناك مادتان ينظمان الاعتقال الاحتياطي بالنسبة للنيابة العامة وهما المادة (73 و 74)، الأولى تقول إذا تعلق الأمر بتلبس بجناية والثانية مرتبطة بجاهزية القضية للحكم، بحيث أنه إذ ظهر أن القضية جاهزة للحكم أصدر الوكيل أمراً بوضع المتهم رهن الاعتقال الاحتياطي وأحاله على غرفة الجنايات، ، أما المادة (74) تقول إذا تعلق الأمر بالتلبس بجنحة أو إذا لم تتوفر في مرتكبها ضمانات كافية للحضور فإنه يمكن لوكيل الملك أو نائبه أن يصدر أمراً بإيداع المتهم في السجن” قول المحامي.
ويضيف “المشكل في المادتين يتعلق بالتلبس، إذ أن المادة (56) التي تنظم حالة التلبس فضفاضة، لا تتحدث عن حالة التلبس الفعلي، وإنما تعطي مفهوماً واسع للتلبس بمعنى أن النيابة العامة لديها سلطة كبيرة لتأمر بالاعتقال الاحتياطي”.
أما قاضي التحقيق، فالمادة (159) من قانون المسطرة الجنائية تتحدث عن إجرائيين وهما الوضع تحت المراقبة القضائية والاعتقال الاحتياطي، وتعتبرهما تدابير استثنائية، وتحدد المادة (160) شروط المراقبة القضائية، من خلال إمكانية أن يوضع المتهم تحت المراقبة القضائية في أي مرحلة من التحقيق لمدة شهرين قابلين للتجديد خمس مرات، لأجل ضمان حضوره لضرورة التحقيق أو الحفاظ على أمن الأشخاص أو النظام العام، بمعنى أن الذي يمكن أن يدفع قاضي التحقيق ليأمر بالاعتقال الشخص، هما هذان الشرطان.
وأضاف أغناج أن “هناك مبرران غامضان في الاعتقال الاحتياطي هما ضرورة التحقيق وحالة التلبس، إذ تبقى السلطة التقديرية لقاضي التحقيق، فيمكنه أن يأمر باعتقال الشخص لضرورة التحقيق وتأتي مدة يمنحه السراح، ويمكن أن يعتقله مرة أخرى بضرورة التحقيق، من جهة أخرى يفترض أن هذه القرارات تخضع لرقابة القضاء الجالس إما من خلال النظر في السراح المؤقت، أو قابلية استئناف قرار قاضي التحقيق أمام الغرفة الجنحية، وفي كلتا الحالتين المشرع كان يجب عليه أن يكتب فقرة يقول فيها “نظراً لأن الأمر يتعلق بتدبير استثنائي فالذي ينبغي أن يبرر هو استمرار الاعتقال وليس السراح”” يردف المتحدث ذاته.
واعتبر المحامي أن “النص القانوني حين يتحدث عن طلبات السراح المنصوص عليها في المادة (180)، لا يحدد المبررات التي يمكن للمحكمة أن تبث فيها في حالة الافراج، بحيث أن مدة الاعتقال الاحتياطي غير محددة حين تكون القضية في المحكمة، بمعنى أن الشخص يمكن أن يكون معتقلاً احتياطياً ويتحاكم في نفس الوقت لمدة أربع أو خمس سنوات، لأن المحكمة تقول إن هذا الاعتقال غير خاضع للشروط التي منصوص عليها عند قاضي التحقيق، وأحياناً تكون حالات معقدة في الاعتقال الاحتياطي، مثلا الحالات التي يكون فيها قبول النقض في الوقت الذي تنتهي فيها عقوبة السجين، ولم تبث محكمة الإحالة في قضيته لا يتم إطلاق سراحه ويبقى معتقلا بدون سبب”.
ويفسر أغناج أن “القضاة يعتبرون أن مدة الاعتقال الاحتياطي ستحسب في مدة العقوبة السجنية، فبالتالي ليس هناك مشكل في الاعتقال وهذه الفكرة خطيرة لأن القاضي عند طلب السراح يكون في نيته “أن ذلك الشخص يقضي عقوبته رغم أنه لم يحكم عليه بعد، وبالتالي تكون الإدانة قبل أن تناقش القضية أو يسمع له ولدفاعه”، مشيراً إلى أنه “رغم أن هناك من يتم الحكم عليه بأقل من مدة الاعتقال الاحتياطي أو يصدر في حقه حكم البراءة أو يحكم بموقوف التنفيذ إلا أن القضاة لم يغيروا هذه القناعة”.
من جهة أخرى يقول أغناج إن “نظرة المجتمع للسراح تلعب دوراً أيضاً في استمرار الاعتقال الاحتياطي، بحيث أن المتابعة لا تشكل عقوبة كافية بالنسبة للمتهم أمام الضحية، هذه المسألة ترتب عليها أن فكرة الحبس كعقوبة هي التي تحرك الضحية وتأثر على النيابة العامة، فالنيابة حين يأتي إليها متهم وتقوم بإخلاء سبيله يكون هناك حرج مع الضحية فبالتالي يقول أنا سأتابعه والمحكمة تمنحه السراح، لكن بالمقابل المحكمة حين يأتي المتهم في حالة اعتقال تقول إن هناك شيء ما في الملف دفع النيابة العامة لمتابعته في حالة اعتقال فتبقي على اعتقاله حتى مناقشة القضية”.
ويؤكد المتحدث ذاته أن حل الاعتقال الاحتياطي ليس فقط في ترشيده، بل في ثلاثة أشياء أولها إصدار قانون ينص على الحق في المثول أمام العدالة حرا إلا في الحالات الاستثنائية التي يحددها المشرع، ثانياً توضيح الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الاعتقال الاحتياطي، وأخيرا وضع معايير لرقابة القضاء، مثلاً شخص لديه عمل قار وسكن قار وليس لديه سوابق غير مقبول أن يتم اعتبار أن ليس له الضمانات للحضور أمام المحكمة.