هاجر الريسوني
رغم أن هذا النشاط غير مرخص ولا يوجد قانون ينظمه، إلا أن هؤلاء الرقاة يمارسون أنشطتهم في العلن، إذ أن أغلبهم يروجون لمراكزهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي في جلسات تنشر بالبث المباشر، دون تدخل من السلطة إلا في حالات الاستغلال الجنسي.
في السنوات الأخيرة انتقل الرقاة من ممارسة الرقية الشرعية في البيوت إلى فتح مراكز متخصصة في الرقية، ووفقا للدراسة التي قام بها الباحث في الأنثروبولوجيا يونس الوكيلي تحت عنوان “اقتصاد الحركة السلفية: حالة مراكز ‘الرقية الشرعية’ في المغرب”، قال أحد الرقاة إن ” كثرة الطلب على العلاج حتّمت على الراقي أن يُخصص أكبر قدر من الوقت للأمر، فكان لا بد من تغيير جوهري في الممارسة؛ إذ لم يعد الراقي يذهب إلى المريض في المنزل لعلاجه من المس أو سحر، بل أصبح المريض هو من يأتي إلى الراقي في المركز”. ويعتبر لوكيلي أن هذا الانتقال هو “مسار تطور أي نشاط إلى مهنة”.
ويبرر الرقاة الذين ينتمون إلى التيار السلفي فتحهم لمراكز خاصة بالرقية بأنه” بعد انتشار ظاهرة العلاج بالقرآن الكريم في الآونة الأخيرة، أصبح يثير القلل ويبعث الأسف أن يتولى هذا الأمر بعض جهلة القراء ممن ليس لهم حظ من العلم الشرعي، فكانت تجارة مربحة سريعة، وأكلا لأموال الناس بالباطل…فكان لابد من وضع ضوابط، وفتح عيادات قرآنية لحماية هذا النشاط من المشعوذين والدجالين، مع توضيح المفاهيم الشرعية الصحيحة” وفقا للدراسة التي تتوفر “هوامش” على نسخة منها.
منذ القدم لم تكن ممارسة الرقية الشرعية نشاطا مدرا للدخل، بل كان من يمارسونها أناس معروفين بتفقههم في العلوم الشرعية وأئمة المساجد، غير أنه في السنوات الأخيرة، أصبحت الرقية نشاط تجاري اغتنى منه الكثيرون.
ويبرر أحد الرقاة الذين تحدث إليهم لوكيلي خلال دراسته وجوب تحديد الأجر، بكون “حديث الرقاة عن الأجر لم يعد موضوع جدل لأن العائد المالي الذي يتقاضوه لا يعكس حجم الخطورة على حياتهم الشخصية والعائلية، بحيث أن جلسات الرقية تؤدي حيانا إلى أضرار جسدية جسيمة بسبب الجن الذي يخوضون معركة ضده، فضلا عن أن الأجر ضروري من أجل تلبية الراقي لحاجاته اليومية”.
والذي أصبح مثار الجدل وفقا للوكيلي هي المبالغ المالية المرتفعة التي يطلبها بعض الرقاة، وقد يصل ثمن الجلسة الواحدة في بعض الأحيان إلى 3500 درهم للجلسة والمواعبد قد تصل إلى شهر وأكثر، بينما هناك رقاة آخرون يحددون سعر الجلسة حسب كل حالة مرضية، إذ هناك حالات تستغرق مدة طويلة للعلاج يتراوح المقابل المادي للجلسة بين 2000 درهم و4850 درهم تقريباً، وهذه الحالة يكون فيها الانتقال إلى بيت المعالج ومتابعته.
من جهة أخرى هناك رقاة أثمنتهم منخفضة فمثلا الراقي أ.م يحّدد ثمن الحصة الواحدة الفردية في 100 درهم، والرقية الشرعية الجماعية بخمسة دولارات، إضافية لشراء الأعشاب والزيوت والماء التي يضع لها مقابلاً يتراوح ما بين 20 درهم و 200 درهم، وقدم الوكيلي مثالا عن دخل راق يعتمد هذه الأثمنة بكون دخله الشهري يصل إلى 20 ألف درهم كأقل تقدير.
يكثر الحديث عن أن الرقاة يستغلون هشاشة المغاربة من أجل جني الأرباح وجمع الأموال، وهو الرأي الذي يتفق معه محمد عبد الوهاب الرفيقي الباحث في الدراسات الإسلامية، حيث أوضح في تصريح لـ“هوامش أنفو” أن “الرقاة الجدد لا يستغلون فقط الهشاشة المادية وإنما يستغلون الهشاشة المعرفية أيضا”، مضيفا أنهم ” يستغلون الصعوبات المادية التي يجدها البعض عند الولوج للمستشفيات والصيدليات، وبالتالي يفضلون شخصا يسمى راقيا، يعالجهم بأعشاب ثمنها رخيص وبكلفة بسيطة جدا”.
وفي نفس السياق يستغلون “الهشاشة المعرفية الموجودة عند كثير من أبناء المجتمع، بحيث أنهم يصدقون مثل هذه الأساليب، إذ بسبب ضعف مستوى الوعي يعتقد الناس فعلا بحقيقة تلبس الجن بالإنس، وبحقيقة وجود العلاج عند هؤلاء الرقاة، بل إنهم يستسلمون لكل الروايات وسرديات، الغيبية التي يقدمونها لهم كتشخيص ووصف لحالتهم” يقول الرفيقي في تصريح لـ“هوامش أنفو”، مشددا على أن ما يقوم به الرقاة هو “نوع من الاستغلال البشع، الذي يلعب على عقول الناس وجيوبهم وتوظيف الدين لتحقيق مصالح مادية محضة”.
وأضاف الرفيقي أنه “يعرف رقاة يلتجئ لهم البعض وهم لا يقدمون لهم أي شيء، حتى الماء الذي يقدمونه لهم لم يقرأ عليه لا قرآن ولا أدعية، ماء عادي من الصنبور، ومع ذلك يأتي إليهم الناس مرة أخرى لشكرهم على العلاج الذي قدموه لهم”، مفسرا أن “العلاج الذي يقدمه الرقاة، يعتمد على ما هو نفسي بالأساس وليس علاجا حقيقيا، وبالتالي ما يسمى الرقية لا يمكن أن تعالج الأمراض العضوية، إذ لا يمكن لشخص مريض بالكلى أو بالسكري أو السرطان أن يذهب إلى الراقي ليعالجه منها وحتى الأمراض النفسية لا علاقة لها لا من قريب أو بعيد بقضية قراءة القرآن، هي مسائل روحية يرتاح فيها البعض نفسيا وهذا لا يعني أنها علاج حقيقي من المرض”.
ويرى الباحث المغربي في الشأن الديني منتصر حمادة في حديثه لـ“هوامش” أنه “يجب التمييز بين ثلاثة اتجاهات على الأقل في قراءة هذه الظاهرة: الأول اتجاه يمارس الرقية الشرقية بشكل تلقائي أو عفوي أي دون استحضار الهاجس الربحي الصرف، والثاني يمارسها من أجل الاغتناء المالي الصرف؛ وأخيرا اتجاه ثالث يحاول التوفيق بين البابين سالفي الذكر، وعنوانه تواضع الهاجس الربحي في ممارسة الرقية الشرعية، وهو اتجاه نجده مثلا في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن المواقع نفسها، تعج بالنماذج المصنفة في الباب الثاني، وهذا متوقع” يقول المتحدث.
ويفسر حمادة لهث بعض الرقاة وراء الربح المادي بكون “من كان هاجسه الاغتناء المالي، لا تهمه الطرق أو السبل التي سيوظفها من أجل تحقيق هذا الاغتناء، بما في ذلك توظيف الخطاب الديني، وهذه ظاهرة نعاينها في المغرب والمنطقة بشكل جلي منذ عقدين على الأقل، سواء مع بعض الحالات المصنفة في خانة ‘الدعاة الجدد’، أو مع بعض النماذج التي تراهن على الرقية الشرعية. وبما أن العالم الرقمي ومنه مواقع التواصل الاجتماعي تفيد في الدعاية والترويج والاستقطاب، فطبيعي أن يتم استغلالها من طرف أصحاب الباب الثالث، خاصة أن هناك عدة محددات تصب لمصلحتهم في سياق تحقيق هذا الاغتناء، منها الأمية والفقر وتأثير الخطاب الديني وتوظيف آليات الدعاية، إلخ.”
بالمقابل يقول الباحث في الشأن الديني إن استحواذ هذه الفئة على المجال، لا ينفي الوجود الفعلي لتيار يمارس الرقية الشرعية مقابل تعويضات رمزية أو مجاناً حتى، بصرف النظر عن طبيعة هذه الممارسة، كأن تكون ذات صلة بممارسات دينية تقليدية سائدة في المغرب منذ قرون، أو ذات صلة بتأثير خطاب ديني سلفي المرجعية دخل المغرب منذ عقود”.