الرئيسية

بصمات نسوية – ثريّا الشّاوي أول ربّانة طائرة في أفريقيا… لغز الاغتيال قبيل الاستقلال 

هي أول وأصغر ربانة طائرة بالمغرب وأفريقيا، اغتيلت بالرصاص يوما واحدا قبل استقلال المغرب. كانت مهتمة بإحداث تغيير إيجابي في بلدها المغرب. أنتجت أعمالا في الكتابة والشعر، ولعل أبرز إنجازاتها هو تأسيسها لأول مدرسة للطيران العسكري والمدني بالمغرب، كما أنها هي من اختارت رمز الطيران المغربي الذي نعرفه اليوم، واستطاعت أن تحرر كتابا لتعلم الطيران باللغة العربية بالتنسيق مع وزارة التجهيز والنقل انداك.

مريم أبروش

عشية فاتح مارس 1956، السعادة تعم أرجاء البلاد، وصوت الهتافات يصدح من كل الأحياء. قبل يوم واحد من إعلان استقلال المغرب وإلغاء معاهدة الحماية الفرنسية، تودع ثريا الشاوي فتيات معهد الأميرة لالة آمنة على أمل لقائهم في اليوم الموالي أثناء الحفل الذي ستشارك فيه وإياهن احتفالا بنيل المغرب استقلاله.

استقلت ثريا سيارتها رفقة أخيها صلاح الدين الذي لا يتجاوز عمره آنذاك الحادية عشر سنة. تجاذبا أطراف الحديث بكل ود ونشاط كما عهدا. الساعة تشير إلى السادسة مساء وعشرون دقيقة، وصلت ثريا بوابة المنزل الذي لا يبعد عن المعهد سوى بمسافة 300 متر، والدتها تطل من الشرفة كعادتها تمازحها، وتخبرها ثريا بأن لديها موعدا مع لجنة «نادي الطيران الملكي» في تمام الساعة السادسة والنصف. 

ترجلت ثريا من السيارة بابتسامتها المعتادة، فإذا بشخص باغتها من الخلف كما لو انبثق من العدم، أخرج مسدسه، ولكي لا يدع أي مجال للخطأ هاته المرة، صوب المسدس لرأسها مباشرة، أفرغ رصاصة الغدر في جمجمتها واختفى. وعلى مرأى من ناظري أخيها الصغير وصرخات أمها المدوية، سقطت ثريا جثة هامدة غارقة في بركة دمها. 

ميلاد أيقونة مغربية

بمدينة فاس وتحديدا بحومة القلقليين فتحت ثريا الشاوي عينيها على العالم لأول مرة، وذلك يوم 14 من دجنبر سنة 1937. ترعرعت ثريا في حضن أسرة تشجعها دوما على العلم والتميّز والتحدي. وهي طفلة في السادسة من عمرها، أحضر لها والدها الرائد المسرحي عبد الواحد الشاوي أحد أساتذة القرويين، وهو إدريس بنسودة، ليلقنها بشكل يومي دروسا في الفقه والنحو والتاريخ وكذا في الإنشاء والمحادثة. فقطفت بذلك ثريا من كل بستان من بساتين العلوم وردة، ومن تم فتحت ذراعيها على مصراعيهما لاكتساب المعرفة. تميزت الطفلة ثريا بشغفها بالعلم، وهيامها المفرط بالألعاب الميكانيكية الصغيرة، مثل الطائرات، حتى أنها كانت تحب أن تفكك ألعابها لتكتشف ما بداخلها ولا تكتفي باللعب بها فقط.

في نوفمبر سنة 1949 شاركت ثريا في مباراة أدبية بمناسبة عيد العرش، وحازت على الجائزة الأولى. كمكافأة، طلبت ثريا من أبيها أن يحقق أمنيتها في الانخراط في مدرسة الطيران، وبالرغم من صعوبة الأمر حينها، غير أن أباها لم يشأ أن يكسر خاطرها فسجلها بالفعل في مدرسة “تيط مليل” للطيران، ليبدأ بذلك فصل الكفاح في حياة ثريا.  

حصلت الطالبة المجدة على شهادة الكفاءة بعد أربعة أشهر من التدريب فقط، وبعدها نالت شهادة الإجازة في الطيران في سن لم يتجاوز الخامسة عشرة. لتكون بذلك أول وأصغر ربانة في المغرب وإفريقيا، وواحدة من بين ثلاث ربانات طائرة في العالم. 

لم يكن ولوج مدرسة الطيران بالأمر اليسير. خروج الفتيات من البيت للتمدرس في تلك الحقبة وخاصة في ظل تلك الظروف السياسة كان صعبا للغاية، ناهيك عن أن مدرسة “تيط مليل” كانت مخصصة للنخبة الفرنسية و الإسبانية، فكان ولوجها للمدرسة تحديا للسلطات الاستعمارية وإثباتا لعزيمة المرأة المغربية ومقاومتها.

ذاع صيت ثريا الشاوي، وأصبح اسمها رمزا للفخر والاعتزاز تتداوله الصحف والمنابر الإعلامية؛ إذ كيف لبلد ما يزال تحت وطأة الاستعمار أن يقدم للعالم فتاة صغيرة تقود طائرة بهذا المستوى من الاحترافية. ففي زمن كان يُقمع فيه صوت النساء، ولا يُقبل أن تمارس فيه المرأة أي دور قيادي، استطاعت هذه الشابة أن تكسر القيود المجتمعية وتحقق حلمها لتصبح بذلك قدوة ملهمة للعديد من الفتيات المغربيات.

قصة الطيران الأولى 

وكأنها وُلدت طائرا. منذ نعومة أناملها الصغيرة، تعد ثريا استثناء مقارنة بقريناتها. طفلة تنتمي للسماء وتحلق بروحها وأفكارها هناك عاليا. فقد كانت الطفلة ثريا تعشق الطائرات، وتهيم لساعات في تأمل السماء، إلى أن فتحت جناحيها لتتحرر كما تفعل الطيور.

كان اللقاء الأول بين ثريا وعالم الطيران قصة استثنائية، فصدق من قال رب ضارة نافعة. ففي سنتها الثالثة، أصيبت ثريا  بمرض صدري جاثم، آلمها ولم تنفع معه العقاقير الطبية. أرق المرض والدها، وعمل ما باستطاعته لعلاجها، فأخدها إلى طبيب بفاس عله يجد لمرضها دواء، فإذا به يصف له علاجا غريبا. الطيران هو العلاج! نصحه الطبيب بأن يأخذها إلى مطار المدينة، و يبحث عن طيار يقبل أن يقلها في جولة على متن الطائرة، لعل هواء الأعالي يشفي مرضها.لم يتردد الأب، وراح يبحث عمن يساعده في مسعاه، حتى وجد أخيرا من يحقق له ذلك. ركبت ثريا الطائرة لأول مرة في حياتها، وانطلقت عاليا مشاركة الطيور فضاءهم الواسع.

 وبالفعل، شفيت ثريا وغادر السقم جسمها، غير أن عشق الطيران استوطن روحها.

ثريا، رمز للمرأة المغربية الحرة

لم تقتصر ثريا على مجال الطيران فقط، بل كانت مهتمة بإحداث تغيير إيجابي في بلدها المغرب. فقد أنشأت جمعية “أخوات الإحسان”، كما أنتجت أعمالا في الكتابة والشعر، ولعل أبرز إنجازاتها هو تأسيسها لأول مدرسة للطيران العسكري والمدني بالمغرب، كما أنها هي من اختارت رمز الطيران المغربي الذي نعرفه اليوم، واستطاعت أن تحرر كتابا لتعلم الطيران باللغة العربية بالتنسيق مع وزارة التجهيز والنقل.

يقول المؤرخ عبد الحق المريني في كتابه “الشهيدة ثريا الشاوي أول طيارة بالمغرب الكبير” أن “ثريا الشاوي كافحت، وناضلت، ودافعت عن حقوق وطنها المغصوبة، وفتحت في وجه الفتاة المغربية بابا من أبواب تطورها وتقدمها، أرادت أن ترسم لها أروع الأمثلة في التضحية والبسالة والإقدام، فطارت تحلق في سماء المغرب، أحبت أن تكون ممن انتشل الفتاة من كَبْوتها، وأنقذها من وهدتها، فمثلت في خشبة المسرح المغربي، وكتبت وخطبت في حفلات عيد العرش، وواصلت الخطى، حتى صوبت نحوها يد أثيمة رصاصة في يوم من الأيام، (فاتح مارس 1956)، التي عملت من أجلها، وناضلت كأخواتها في سبيل تحقيقها، أيام استعادة الحرية والعزة والكرامة. لقد جعلت منها تلك الرصاصة شهيدة من شهداء الوطن.”

وفي مقال كتبه الكاتب عبد الكريم غلاب، نشر في صحيفة “رسالة المغرب”، مهنئا ثريا الشاوي بمناسبة فوزها في قيادة الطائرة: “أهم ما يدل عليه هذا الحدث، هو الاستعداد الكامن في الفتاة المغربية، للمساهمة في النشاط الحيوي للبلاد. ليس ينقصنا غير رفع القيود التي تحد من نشاطها، وفي مقدمة هذه القيود الجهل. الفتاة المغربية إذا ما أعدت إعدادا صالحا، وفتحت أمامها أبواب المعرفة، ووجهت التوجيه الصحيح، واكتشفت فيها نواحي النشاط، واستغلت قدرتها على العمل تستطيع أن تصنع المعجزات”.

النجاة بأعجوبة من محاولات الاغتيال

كانت ثريا الهدف الأساسي لأحدهم أو بالأحرى لجهة معينة، فقد تعرضت لأربع محاولات اغتيال في ظرف سنتين.

ففي نوفمبر 1954، تم استهدافها من قبل مجموعة من الفرنسيين وضعوا قنبلة أمام المنزل الذي تسكنه. انفجرت القنبلة بالفعل، وخلفت خسائر مادية كبيرة، غير أنها لم تصب أي أفراد العائلة بسوء، ونجت ثريا من محاولة الاغتيال الأولى. 

تلتها محاولة ثانية في نفس السنة، أشد شراسة ومكرا. فقد انهال عليها الرصاص من رشاش أوتوماتيكي أثناء ركوبها السيارة رفقة والدها، لكن القدر كان له رأي آخر و كان لعمر ثريا مدد ولم تصب هي ولا والدها ونجوَا بأعجوبة.

لم ينته أجل ثريا بعد، فقد نجت من محاولة للقتل في غشت 1955 وأخطأتها الرصاصة مرة أخرى. وتكرر نفس السيناريو في نفس السنة، لكن تجمع المارة حولها حال دون نجاح المخطط، إلى أن نجحت المحاولة الخامسة و أسفرت عن استشهادها في مارس سنة 1956.

من قتل ثريا الشاوي؟

اهتاج المغاربة بمقتل ثريا الشاوي، وتم تصنيفها كجريمة سياسية. لف الكثير من الغموض ظروف اغتيال الشابة، وتساءل الكل عن هوية القاتل وهوية الجهة التي تدعمه، فمن هذا الذي تشكل له ثريا تهديدا بهذا الحجم؟ 

بدأت خيوط الجريمة تفك تدريجيا. سيذكر ضابط مخابرات مغربي بعد الجريمة بسنوات، أن مقتل ثريا الشاوي، كان على يد أحمد الطويل، العميد في سلك الشرطة السياسية بـ«كوميسارية الساتيام» بالدار البيضاء، وهو عنصر في ميليشيا سرية كانت معروفة بتنفيذها عمليات الاغتيال و تصفية العديد من رجال المقاومة آنذاك. وقد شاع آنذاك أن أحمد الطويل قد اغتالها انتقاما لأنها رفضت عرضه للزواج، غير أنه لا وجود لمصادر تؤكد هذا التخمين.

لكن الصحفي لحسن لعسيبي صرح بأن الجريمة أكبر من أن يرتكبها أحمد الطويل بمفرده، وأضاف أن هناك جهة معينة هي من استهدفت ثريا وأمرت بقرار اغتيالها. ومما يؤكد تفسيره، هي شهادة أدلت بها فاطمة التهامي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي»،  إذ صرحت بأنها تعرضت للاختطاف في صباح اليوم نفسه الذي اغتيلت فيه ثريا، نظرا للشبه الحاصل بينهما، وظنا من العصابة الخاطفة أنهم قد خطفوا ثريا الشاوي، قبل أن يتأكدوا من أن الماثلة أمامهم ليست المستهدفة، فلم يفرجوا عنها إلا بعد أن نجحوا في اغتيال ثريا. 

لم يستهدف القاتل ثريا الشاوي وحسب، بل استهدف المرأة المغربية المقاومة، المناضلة الوطنية والنابغة العلمية. لقد استهدف في ثريا رمزيتها وتأثيرها الكبير على بنات جنسها، وسعيها لتحرير بلدها وجعله وطنا مستقلا يموت أبناؤه فداء له. 

كانت فرحة الغد مبتورة. أعلن المغرب عن استقلاله، كما أعلن عن فقدانه لمناضلة وطيارة مغربية لطالما عملت قصارى جهدها لتجعل من المغرب مكانا أفضل للعيش، ولتجعل من نسائه أيقونات يضرب بهن المثل في كل المجالات. 

شيعت جنازة الشهيدة ثريا الشاوي يوم الثاني من مارس سنة 1956. جنازة كبيرة وصل طولها لعدة كيلومترات و لبى نداءها 60 ألف شخص، قدموا التعازي لبلد فقد ابنته.

وعربونا للمحبة والافتخار والاعتزاز، درج كثيرون منهم بعد ذلك على تسمية بناتهم بـ”ثريا”، تيمنا بها، عل بناتهم يأخذن من اسم ثريا فضائل العزيمة والإصرار والنضال. 

رغم أن مسيرة ثريا الشاوي انتهت في وقت مبكر جدا، إلا أنها أصبحت اسما خالدا في تاريخ المغرب. غير أنه لم يطلق اسم ثريا الشاوي لحد الآن على أي مطار من مطارات المغرب، الأمر الذي استغربه العديد من الباحثين والمهتمين. فتشريف مطار بتسميته مطار الشهيدة ثريا الشاوي أبسط التفاتة تكريما لروح أول طيارة مغربية تحلق في السماء.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram