حسناء عتيب
في دروب المدينة العتيقة لمدينة فاس، أو “فاس البالي”، والتي تعد واحدة من المدن الأكثر حفاظا على تراثها التاريخي، لا يسمح بدخول السيارات. فقط الحمير، والبغال، والعربات اليدوية يسمح لها بنقل البضائع عبر أزقتها الضيقة والمنحدرة.
تحتضن المدينة التي تلقب بعاصمة المغرب الروحية، تسعة آلاف مبنى تاريخي، منها 11 مدرسة دينية و83 ضريحا و176 مسجدا و1200 ورشة للصناعة التقليدية. فضلا عن القصور الفسيحة بحدائقها الغناء، والبازارات الواسعة والحوانيت الصغيرة التي تعرض منتجات الخياطة والفخار والنسيج أو التحف المعدنية.
وعلى إيقاعات الأغاني الكلاسيكية، حيث تفوح حكاية الزمن التراثي، تتناهى إلى مسامع زائر المدينة، وهو يجول في أزقتها الملتوية بين دورها القديمة ومعمار مآثرها وفنادقها ومدارسها التاريخية، نغمات مختلفة لكنها منسجمة وكأنها سيمفونية فريدة يصعب تأليفها أو عزفها من طرف أمهر الموسيقيين. فهذا يضرب بمطرقته الصغيرة بخفة ودقة على آنية من نحاس أو فضة مزركشة وآخر يحيك جلابية تقليدية أو قفطانا مغربيا أصيلا وهو يترنم بأهازيج شعبية، وثالث يدخل آخر التعديلات على”البلغة الفاسية” ، وهكذا دواليك إلى أن تغادر المدينة القديمة.
الصناعة التقليدية الفاسية، تنم بكل تاريخها وعراقتها عن أصالة مدينة فاس ورقة ذوق أهلها، ولهذا غصنا في عمق التقاليد الفاسية الأصيلة، والتقينا خلال جولتنا في دروبها وأزقتها العتيقة بصناع تقليديين أبانوا عن حرفية عالية، وحب متأصل للحرفة.
بوجه بشوش وأنامل لا تتوقف عن خياطة البلغة التي بين يديه، يحكي الحسين المخزوم في عقده السادس، والذي يمتهن صناعة الشرابيل والبلاغي منذ سنوات قائلا لمنصة “هوامش”: “امتهنت هذه الحرفة مذ كنت صغيرا، تعلمت فيها أصول الحرفة من ألفها إلى يائها. كيفية خياطة البلغة من جميع زواياها، كما وتعرفت على المواد الطبيعية التي تدخل في صباغة الجلد قبل إرساله إلى (دار الدبغ ) – وهي الأحواض التي توضع فيها الجلود لمدة 10 أيام قبل غسلها- من مثل الزعفران وزق الحمام وقشور الرمان …
و البلغة التي تصنع من جلد الماعز، والغنم، والذي استعملت فيه المواد المذكورة يقول الحسين بكل افتخار تسمى “ببلغة الطبيب”، على اعتبار أن المواد التي استعملت في صناعتها كلها طبيعية، ولا خوف على من يرتديها”.
ويختم الحرفي بقوله “البلغة (الزيوانية) الصفراء اللون، نسبة إلى الصباغة التي تصبغ بها، يكثر الإقبال عليها بصفة خاصة خلال الأعياد والأعراس”. فلها مكانة خاصة لدى علية القوم كما عامة الشعب”.
بإحدى الأزقة المجاورة لساحة النجارين صعدنا الدرج- صحبة “المعلم” العلوي عبد الله (يقال “المعلم” لكل حرفي متمكن من حرفته ضابط لأصولها) -عبر أحد البازارات المتخصصة في بيع السترات الجلدية والحقائب اليدوية وغيرها… وذلك حتى نتمكن من رؤية “دار دبغ سيدي موسى” من فوق. والتي تعد الأصغر من بين اثنين آخرين هما “دار دبغ الطالعة الكبيرة”، و”دار دبغ شوارة” الأقدم بين دور الدبغ التي أسست بفاس، والتي بلغ عددها قبل قرنين نحو 19 داراً.
يحكي “المعلم عبد الله” بلهجة الواثق من معلوماته “لهوامش”، كيف كانت تتم دباغة الجلود بعد أن تستقدم من المسلخ. والمراحل التي تمر منها عملية الدبغ، ابتداء من المواد التي تستعمل في صباغة الجلد. مثل الزعفراني، وزق الحمام، وقشور الرمان، قائلا :”كانت دور الدباغة تعرف قديما باسم “دار الذهب” امتلكتها آنذاك عائلات فاسية أمثال بناني، بنجلون، وبنحيون… لتترك بعد ذلك لأناس آخرين ليهتموا بها”.
ويشرح هذا الحرفي والابتسامة لا تفارق محياه الطرق المتبعة لدبغ الجلود قائلا: “تتم عملية الدباغة على مراحل عدة، فبعد سلخ جلد الماشية يبدأ الدباغ عمله، إذ يترك الجلد بما عليه من ملح تحت الشمس قرابة الأسبوعين، حتى يجف من الماء، ثم تٌشق الجلود باستخدام سكين لتفصل الصوف عن الجلد بعد أن تٌغسل بالمياه حتى تصبح رطبة، بعد ذلك يٌخلط بمادة تدعى “تكاوت” ويترك فيها الجلد إلى أن يصبح لونه أزرق، ويضاف عادة إليها الزيت لزيادة نعومة الجلد”.
وتتم الصباغة -يضيف المعلم- “باستعمال زق الحمام وقشور الرمان وتكاوت، لتوضع في أحواض لمدة عشرة أيام، بعدها تعاد الجلود لتدبغ مرة أخرى وتصنف حسب النوع واللون.
وتنبعث روائح كريهة من أحواض الدباغة، لكن السياح لا يملون من متابعة المشهد من الشرفات المطلة على ساحة المعمل.
بإحدى البيوت الضيقة بقلب المدينة العتيقة بفاس، يتوزع شباب ونسوة على ثلاث غرف ضيقة، كل مجموعة منشغلة بعملها كخلية نحل. بعضهم يصبغ (البراد) “إبريق الشاي” بمادة سوداء، والبعض الآخر يقوم بغطس الأواني النحاسية داخل أحواض ماء بها مواد كيماوية، ونساء أخريات في الجانب الآخر من الغرفة يمررن نجارة الخشب على الأواني النحاسية بعدما يقوم بتنشيفها شاب في العشرين من عمره بواسطة أنبوب هواء.
ويقول “لشهب محمد” “لهوامش” وهو شاب في الثلاتينيات من عمره وهو المسؤول عن الورشة :”هنا في الورشة عمالي مكلفون بـ “التشلال” (أي غسل ومسح الأواني النحاسية لدى باعة النحاس)، نشتغل اليوم كله في تشلال الأواني النحاسية، نستقبلها من زبنائنا لنقوم نحن بإعادتها لرونقها الأول”، وبخصوص المواد التي تستعمل في التشلال يشرح محمد: “المواد التي نستعملها في التشلال كيماوية، نعلم بخطورة الأمر لكن ما باليد حيلة، هي مهنة ورثناها عن أجدادنا ولا محيص عنها”.
واعترف لشهب بأن مهنة (تشلال) الأواني النحاسية تنتعش قٌبيل عيد الفطر المبارك، و الأيام الأولى من شهر رمضان.
في نفس الزقاق وبإحدى البيوت المجاورة يتكرر المشهد، الغرف الضيقة والمكان برمته أيضا، شباب وكهول كل في عمله، أصوات ضجيج المطارق والآلات لا تتوقف، قبل تعريضها للنار من أجل معالجتها.
ما إن تحدثنا إلى محمد الشاب الذي أتم عقده الثاني بعدما استأذناه في أخذ دقيقة للدردشة معه حول عمله حتى أجابنا بعفوية تنم عن رحابة صدر أهل فاس قائلا: “عملنا بسيط للغاية، ولا يستغرق أكثر من ربع ساعة لصناعة قالب (البراد)، ليس لدينا رقم محدد لعدد القوالب التي نصنعها في اليوم، نشتغل منذ الصباح إلى المساء وهكذا دواليك. أما بالنسبة للفترات التي تزدهر فيها الحرفة فإن الإقبال عليها يكون في شهر رمضان والأعراس والمناسبات والحفلات”.
“عملنا بسيط، عملنا بسيط”، يرددها محمد دون أن تفارق الابتسامة محياه، ولو أنني كنت أشك بداية في ذلك، خاصة وأنه كان يحدثنا ويده تبحث في الآلة التي كانت تنحت قوالب (البراد).
غادرنا المكان وفي القلب شوق وأمل للرجوع إلى المدينة مرة أخرى للتعرف على باقي الصناعات التقليدية العتيقة التي تشتهر بها المدينة.