قد تكون هذه الأمكنة بعيدة عن المدراس والمؤسسات العمومية والخاصة فلا تثير الشكوك، لكن السلطات لا يمكن ألا تنتبه لوجودها وهي التي قد تفرق 5 أشخاص تجمعوا في ساحة ما بدون أي ترخيص مثلا، لكنها “تضع عين ميكا” تجاه هؤلاء، وتمنحهم حق “السكر” في الهواء الطلق ولو إلى حين. مادامت تلك الجلسات الخمرية تتم في ”سلام ووئام”.
عشرات السيارات المركونة في اتجاهات مختلفة، تصل أحيانا إلى المئة وأحيانا ضعف ذلك. بداخل كل سيارة شخصان على الأقل، وأغلب الأشخاص يحتسون الجعة أو النبيذ أو غيرها. يشربون في السيارة أو قربها دون أن يزعج راحتهم أحد. بين التجريم والتحريم، تخرج عشرات السيارات إلى هوامش المدن، لتنطلق سهرات خمرية، في تلك الأماكن البعيدة، يخرجون من السيارات ليفرغوا مثناتهم كلما امتلأت بالمشروبات الروحية، يتبولون على عجلات سياراتهم أو قربها دون مركب نقص ثم يواصلون سهراتهم الخمرية إلى ساعات متأخرة من الليل.
في كل مدينة يوجد مكان معرف يلتقي فيه هؤلاء المستهلكون الذين يشترون الجعة والنبيذ وغيره من المحلات المفتوحة، ثم يقصدون هذه الأمكنة بسياراتهم. “عنق الجمل” قرب المنزه نواحي الرباط، “واد إكم” بين الصخيرات وتمارة؛ “أفغانستان” وطريق “تدارت” نواحي أكادير..
أمكنة كثيرة ولكل مدينة ذلك الفضاء الذي يقصده الناس “للسكر العلني” داخل السيارات هربا من غلاء الحانات وتكاليف البارات الباهضة. وغالبا ما يكون قبالة البحر في المدن الساحلية أو غيرها من الأمكنة البعيدة عن الناس.
“تنخفض تكلفة الشرب إلى النصف، حيث يتم شراء الجعة أو النبيذ من المحلات بثمن أقل بكثير مما تبيعه به الفنادق والحانات”، يقول مصرح في حديث عفوي. ويضيف : “كل شخص يقصد هذا المكان يجلب معه ما يشربه، فلا وجود لأي ڭراب أو بيع غير قانوي هنا، ولا وجود لنساء نهائيا، كولشي ترونكيل”.
وجوابا على سؤال هل يتعرضون لمضايقات من طرف السلطات يؤكد “لا نسبب أي إزعاج لأحد، نهرب من ضجيج المدينة وكل شخص يجلس هنا حتى يرغب في المغادرة فيغادر، فلماذا ستضايقنا السلطات.” مع ذلك فتصريحات أخرى تؤكد أن ذلك مرتبط بالدوريات الأمنية التي تنظم بين الحين والآخر، حيث يتم تحرير هذه الأماكن من المستهلكين عندما يكثر العدد أو تحدث مشاكل كالعراكات والشكايات.
في طريق فرعية قرب أكادير أوفلا بمدينة أكادير، تؤدي إلى تدارت وأنزا ودواوير أخرى، يمر عابر هذه الطريق بتجمع كبير من السيارات في مفترق طرق تحت أشجار الأرڭان، وقد يتساءل المار من هذه الطريق لأول مرة عن سبب التجمع هناك، خاصة عندما يشاهد بائع كاسكروطات وسط هذا التجمع، وبائع كاوكاو واللوز وهو يطوف بين السيارات، لكن مشهد أكوام القنينات الخضراء تحت تلك الأشجار يجعلك تعرف سبب ذلك التجمع الهائل من السيارات بـ”القطعة”..
إلى جانب “بائع الكاسكروطات” الذي يحصل على مدخول يومي من هذا التجمع، وبائع الفواكه الجافة الذي يحصل على رزقه من هؤلاء “الضيوف الأسخياء” هناك أيضا عدد من الأطفال دون الرابعة عشر، يطوفون بين السيارات لجمع القنينات الفارغة لإعادة بيعها للمختصين بهذه التجارة وكسب بعض الدراهم.
قد يكون هؤلاء المستهلكون لا يعرفون بعضهم البعض، لذلك تَقِل بينهم الاحتكاكات، وقد نفترض غياب أي عراك أو شجار بسبب قلة التواصل وعدم وجود معرفة سابقة بينهم، فهم يهربون من زحمة المدن وضيق الشقق السكنية وغلاء المحلات والمطاعم ويقصدون هذه الأمكنة، لكن الزجاج الأخضر والأسود يملأ المكان تحت الأشجار، خاصة قنينات النبيذ الفارغة التي لا يجد الأطفال مشتريا لها.
وهم بذلك لا يخرجون عن “القاعدة العامة” التي تميز الشواطئ وأغلب أماكن الترفيه في المغرب، حيث يتخلص الناس من أزبالهم في الحدائق والشواطئ بمجرد أن يقرروا الرحيل، دون أن يفكروا في أنهم يمكن أن يعودوا في المرة المقبلة ليجدوا المكان نظيفا ونقيا. لذلك فكما يفرغ “السكارى” مثناتهم في أي مكان، فهم يتخلصون من القنينات من النوافذ مباشرة، حيث يستفيد بعض الأطفال الذين يجمعون تلك القنينات من بعض “الخاوي” الذي لم ينكسر، فيما ينتشر الزجاج الأخضر في باقي المكان.
”عين ميكا” التي تقابل بها السلطات هذه الظاهرة، قد تكون لها تفسيرات عديدة، غير أن هذه المشروبات تذر مبالغ مهمة على خزينة الدولة المغربية، فقد جاء في تقرير لوزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة أصدرته حول تنفيذ قانون مالية 2020 أن الضرائب المحصلة من منتوجات النبيذ والكحول إلى حدود نهاية مارس2020 وصلت 157 مليون درهم، ووفقا لنص مشروع قانون مالية 2020 فإن توقعات إيرادات الضريبة على الخمور والكحول ستصل إلى 718 مليون درهم مقابل 678 مليون درهم سنة 2019، أي بزيادة أكثر من مائة مليون درهم. إلا أن جائحة كورونا خفضت الاستثمار في المجال بنسبة 23 في المئة من لدن الشركات المنتجة للخمور والمشروبات الكحولية بالمغرب، كما انخفض الاستهلاك في النصف الثاني لـ2020 وكذلك 2021 بسبب إغلاق المحلات الفندقية والحانات والبارات.
هذا القطاع يبقى من المجالات التي تذر مبالغ فلكية.