الرئيسية

الداخلة، صنبور الهجرة المتدفق من الجنوب

طريق الهجرة غير النظامية نحو جزر الكناري، تدور عجلاتها بأقصى سرعة في مدينة الداخلة الصحراوية، إحدى أكثر المناطق التي تخضع لحراسة مشددة في البلاد، حيث يبدو من المستحيل تقريبًا الهروب من سيطرة السلطات، ولكن كيف تبحر هذه القوارب؟ من أين يأتي المهاجرون؟ وهل هنالك ثغرات في النظام الأمني؟ أم أن السلطات متورطة في الموضوع؟.

شمال – جنوب:

رغم كل الوجود الأمني، فإن المزيد والمزيد من القوارب تغادر الداخلة في اتجاه جزر الكناري بشكل يومي، وبمعدل “عشرة قوارب في الليلة” وفق ما قاله مهرب لـ”هوامش”.  

ومنذ إغلاق السلطات مدن الشمال، قبل ما وصف “بالهروب الكبير” من سبة خلال الشهر الماضي، وانخفاض أعداد المهاجرين منها، وتحويل البوصلة إلى الصّحراء، وتحديدًا الداخلة، استقبلت الجزر الإسبانية أكثر من 20 ألف مهاجر بطريقة غير نظامية، أكثر من نصفهم مغاربة. وكانت وزارة الداخلية الإسبانية قد علنت في تقرير لها أن عدد المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى جزر الكناري في 2020 وصل إلى 23 ألف و23 مهاجرا سنة 2020، أغلبهم ينطلقون من مدينة الداخلة التي يصل إليها العديد من المواطنين المغاربة برا وجوا، حيت تتواجد بأقصى جنوب الصحراء، -على بعد 400 كيلومتر من الحدود مع موريتانيا و450 كيلومترًا من كناريا- ليحققوا حلم الوصول إلى الفردوس الأوروبي. وبحسب ما أكده مهربون من الداخلة لـ”هوامش” فقد “تجاوزت أعداد المغاربة المهاجرين، أعداد الأفارقة من جنوب الصحراء”.

تحت أعين السلطات

لدخول هذه المدينة عليك المرور عبر سدين أمنيين أحدهما تابع لقوات الدرك الملكي على بعد 25 كلم، وآخر للشرطة، عند مدخل المدينة الشمالي، وفي الطريق كانت الحراسة مشددة، تحديدًا جنوب إقليم بوجدور، يفتشون السيارات، ومن يحمل بطاقة هوية تؤكد أنه ينحدر من مدن الشمال ولا علاقة له بالداخلة، يرحل فورًا.

الداخلة، تلاحظ هنا تواجدا دائما للشرطة والدرك والجيش بالزي الرسمي، ناهيك عن العديد من الأمنيين بزي مدني، ومنذ دخولنا إليها ومعرفتهم أننا صحفيون، لازمتنا سيارة تقل أشخاصا بزي مدني.

ظللنا تحت أعين السيارة المدنية تلك، وكانت لا تختفي إلا لتظهر أخرى تستلم المناوبة مكانها، بل وصل الأمر إلى أنهم احتسوا جنبنا كؤوس القهوة، بإحدى المقاهي. 

وفِي إطار التمويه، اضطررنا إلى توريط صديق، دون أن يشعر، طلبنا منه أن ينقلنا إلى خارج المدينة للاستجمام، فقد كانت السيارة التي تتبعنا كما جربنا مرتين، تقف عند نقطة كمين الشرطة المرابط في مدخل المدينة، وفعلا ذهبنا رفقة صديقنا، إلى خيام خارج الداخلة، قضينا معه وقتًا، وفِي منتصف الليل، أخبرناه أننا سنرافق مجموعة من المهربين ومنظمي عمليات الهجرة.

ساعة الصفر.. نحن والمهربون

على الساعة الواحدة، جاء الاتصال، رقم مجهول، وكانت تلك هي العلامة!، “أين أنت… جيد، اذهب إلى الطريق وتوقف، تأكد أن ليس خلفك أحد… نلتقي هناك”.

فعلًا كان ذلك ما حصل، وكانت مخيلتنا تبدع في اقتراح كل السيناريوهات، هؤلاء لا يثقون في أحد، إنهم محترفون، ويعرفون ما يفعلون، لا يهم، فقد كنّا مستعدين أن ننجز الأمر إلى آخر رمق.

هؤلاء المهربون من أبناء المنطقة، وكان من الصعب الحصول على ثقتهم، قبل أن يتأكدوا من خلال وسيط عرفنا عليهم، أن الصحفي صحراوي الأصل، ومن أبناء المنطقة، ولن يشي بأحد للسلطات، ووفق ما قاله لنا الوسيط، فالمهربون “يحمون أنفسهم من أي كمين ويخافون على أنفسهم”.

بعد قرابة الساعة كنّا نتقلب فيها على “محمصة الصبر”، جاء الفرج، صعدنا السيارة، كانت صغيرة، انطلقت بِنَا إلى مكان آخر، ترجلنا وركبنا أخرى، موكب صغير من سيارتين رباعيتا الدفع، انطلق بنا إلى عمق البادية، أخرجوا القارب الخشبي من مخبئه، ثم بعدها انطلقنا إلى قرية الصيد “إمطلان”، والتي تسمى بـ”111″، تبعد عن الداخلة بـ”111 كلم”، في رحلة كنّا فيها نقتفي آثار المهاجرين.

دليلنا كان شابًا صحراويًا، بدوي أسمر خبر النجوم، وحداثي يعرف “الجي بي إس”، يقود بكل أريحية؛ فقد كان لـ”لبعض رجال الدرك حظهم من دراهم رحلة الليلة”، حسب ما فهمنا من حديثه.

في الطريق، كان يتصل ليطمئن على الأمور مع رفاقه، ثم يطفئ الهاتف، قال لـ”هوامش” إنه “يفعل ذلك ليموه”.

هنا في الطريق، كل شيء يجوز في رحلة الهجرة، فهي مفروشة بالنوايا السيئة، وباحتمالين؛ إما الوصول أو الفشل.

وعند سؤالنا من سميناه “الزعيم”، عن السر وراء عدم قدرة السلطات وقف هذا المد الهادر من المهاجرين، قال “ببساطة لأنهم لا يريدون ذلك”، وأضاف ساخرًا “لكن في بعض الأحيان يوقفون أحدهم ليثبتوا لإسبانيا أن ملايين اليوروهات التي يدفعونها لهم كدعم لوقف الهجرة مفيدة في شيء ما”.

في آخر لحظة أتى اتصال لمنظمي عملية الهجرة هذه، بأن الوقت لا يسمح بالإبحار وتم إلغاء الرحلة، ليعود القارب الخشبي إلى مخبئه ونعود نحن أدراجنا في سيارة أخرى، فاخرة، ذات دفع رباعي.

أثناء عودتنا، علمنا من السائق الذي تولى مهمة ايصالنا، أن دورية تفتيش خرجت إلى شواطئ الداخلة، مما جعل أشخاصا ما بقرية الصيد “إمطلان” يتصلون بالمهربين لإبلاغهم أن “الإبحار صعب الليلة”.

كان السائق غاضبا بسبب فشل العملية، فقد “ضاعت مصاريف كثيرة” حسب قوله، موضحًا “عشرة حمالين مهمتهم تحميل القارب، بألف درهم للشخص، والمحروقات ومصاريف أخرى”.

رفض محدثنا الكشف عن هوية المتصل وما عمله في قرية الصيد “111”، ولكنه أكد أن  متدخلين ييسرون هذه العمليات يأخذون مقابل كل قارب “100 ألف درهم”.

المقاهي سوق للهجرة.. زبائن ووسطاء 

بمدينة الداخلة، يمكنك رؤية الشباب في مجموعات في أي وقت على الطريق في اتجاه المدينة، بعضهم يحمل على ظهره حقائب خفيفة، يدخلون المدينة، وفي المقاهي المنتشرة، يلتقون بسماسرة الهجرة، دون تنسيق مسبق.

في إحدى مقاهي الداخلة، التقينا بشاب يشتغل مع المهربين، سألناه عن المنطقة التي يبحرون منها، قال أنها منطقة تسمى “قرية الصيد لاساركا”، وسط المدينة، وهو الأمر الذي استغربناه، واستغربنا كيف يحدث ذلك أمام أعين السلطات.

وعن الشباب الذين على الطريق، أكد إنهم “يأتون من بني ملال، وقلعة السراغنة وآسفي والفقيه بن صالح”، مشيرًا إلى أن “هناك الكثير من الأشخاص مثلهم في الداخلة، وجميعهم من وسط المغرب وضحايا الوباء والجفاف”.

هذه المعطيات، أكدها لـ”هوامش” من جزيرة لاس بالماس، وعبر تطبيق “واتساب”، حبيب (17 سنة)، المنحدر من قلعة السراغنة، والذي غادر على  متن قارب هجرة “يحمل 31 مهاجرًا مقابل 22 ألف درهم”.

يوم الرحلة، وعلى الساعة العاشرة ليلا ركب حبيب رفقة المهاجرين في سيارة كبيرة، من الداخلة، “اتجهنا إلى مكان في البادية، جلسنا هناك ثمان ساعات، وبعدها انتقلنا إلى مكان قريب من 111، كان هو نقطة الانطلاق”.

ويحكي حبيب أنه “عندما يتم وضع القارب على مياه المحيط ، فإن السائق، الذي يُطلق عليه “الرايس”، يشغل نظام تحديد المواقع “جي بي إس”، ليعرف المسار، وعند الوصول يختلط مع بقية الركاب، لأنه يعلم أن “الرايس” ينتهي به المطاف في السجن. 

ووضح المهرب عمر (29)، يشتغل ضمن شبكة تنظم تهريب البشر نحو جزر الكناري، أن القوارب “تحمل ما بين عشرين إلى ثلاثين مهاجرًا، لمدة ثلاث أيام، مدة الرحلة، شريطة أن تكون الأجواء جيدة، وتدوم خمس إلى ستة أيام إذا كان الطقس سيئا”، مؤكدًا أن “خمسين بالمئة من الرحلات مصيرها الفشل أو الغرق أو الموت”.

أموال وأرقام.. كم تجني العصابات؟

تجني عصابات الهجرة من الرحلة الواحدة حوالي ستين مليون سنتيم (600 ألف درهم)، يدفعون منها نسبة لنافذين يغضون الطرف عن هذه العمليات. ويشترون منها القارب ومعداته.

ويتراوح ثمن القوارب ما بين “140 ألف و200 ألف درهم”، ومحرك صيد، وبراميل بنزين، تكفي للرحلة.

وفق ما قال حبيب لـ”هوامش” فقد التقى بالسمسار في مقهى بالداخلة، واتفقا على ثمن الرحلة، كان الثمن 22 ألف درهم، وهو المبلغ الذي عرفنا في ما بعد، أن للسمسار فيه حصة 2000 درهم عن كل شخص.

سلم المبلغ قبل الصعود، ورفقة ثلاثين مهاجرا آخرين، انطلق قارب حبيب على الساعة “السابعة والنصف صباحًا” في رحلة استمرت على حد قوله، من “صباح الأربعاء إلى مساء الخميس على الساعة الثامنة”.

اسبانيا تتهم: ’’المغرب فتح صنبور الابتزاز‘‘

الكثير من القوارب تغادر الداخلة في اتجاه جزر الكناري، وبدأ أول وصول للقوارب من شبه جزيرة الداخلة في عام 2018، وفي العام التالي، استقبلت الجزر الإسبانية 2698 مهاجرًا غير نظامي عن طريق البحر من إفريقيا.  

وقد بلغ عدد من وصلوا هذا العام بالفعل إلى 18300 نصفهم مغاربة، وبحسب مصادر إسبانية رسمية، فقد أحصت السلطات حوالي 22 ألف من المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى الأرخبيل الإسباني، وقد تجاوزت أعداد وصول المغاربة، في الأشهر الماضية، أعداد الأفارقة من جنوب الصحراء.

حكومة جزر الكناري، تتهم المغرب بـ”الابتزاز” عبر “فتح الصنبور” أمام المهاجرين، من أجل الضغط عليها في قضية ترسيم الحدود البحرية.

وتُظهر بيانات من المنظمة الدولية للهجرة (IOM) التي تعتمد على الأمم المتحدة أنه منذ نوفمبر، أصبح الطريق الذي يربط غرب إفريقيا بإسبانيا هو الطريق الرئيسي للهجرة.

 إحصائيات وزارة الداخلية الإسبانية، في الخامس عشر من دجنبر 2020، تشير إلى أن 20 ألفًا و452 شخصًا دخلوا جزر الكناري و”نصفهم تقريبًا”، حسب المفوضة الأوروبية للداخلية، إيلفا جوهانسون، من المغرب.

وبلغ عدد المهاجرين الذين وصلوا هذا العام إلى إسبانيا بشكل غير منتظم عن طريق البحر أو عبر القفز من سياجي سبتة ومليلية 39 ألفًا و474.

من جهته، قال مسؤول الهجرة بوزارة الداخلية، خالد الزروالي، في مقابلة صحفية، إن قوات النظام المغربية “أجهضت خروج 32 ألف شخص من سواحلها العام الماضي”، معظمهم كانوا في الطريق إلى جزر الكناري.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram