الرئيسية

كيف شوّه الإسمنت المسلّح جمالية المعمار التقليدي في القُرى

لعلّ الزائر للمناطق القروية قد لاحظ كيف تدهور طرازها المعماري الغني؛ من البيوت والقصبات الترابية إلى البيوت الحجرية مروراً بخِيم الترحال ومغارات الأطلس المتوسّط. بالإضافة إلى الإهمال وآثار العوامل الطبيعية، يشكّل الإستخدام المتزايد للإسمنت المسلّح تهديدياً حقيقياً على المعمار الأصيل في هذه المناطق، التي تجمعات هجينة من المنازل القديمة المتآكلة والبنايات الإسمنتية غير المكتملة.  يُعزى […]

لعلّ الزائر للمناطق القروية قد لاحظ كيف تدهور طرازها المعماري الغني؛ من البيوت والقصبات الترابية إلى البيوت الحجرية مروراً بخِيم الترحال ومغارات الأطلس المتوسّط. بالإضافة إلى الإهمال وآثار العوامل الطبيعية، يشكّل الإستخدام المتزايد للإسمنت المسلّح تهديدياً حقيقياً على المعمار الأصيل في هذه المناطق، التي تجمعات هجينة من المنازل القديمة المتآكلة والبنايات الإسمنتية غير المكتملة. 

يُعزى وُلوج البناء الإسمنتي إلى القرى أحياناً إلى البحث عن حلول سريعة لمشاكل يومية (“القطرة”، الإنهيارات، العقارب…)، أو سعياً وراء “عصرنة” مُقنّعة عنوانها إسمنت مسلّح لا يحترم الهوية المحلية. كما أنّ نقص الإمكانات أمام غلاء تكاليف الترميم واندثار بعض تقنيات البناء العتيقة (كـ “التراب المدكوك” أو “اللوح” أو “التّابوت” على سبيل المثال)، ساهم في تأزيم واقع المساكن القروية، وهو ما يثير قلقاً بشأن تداعياته الجمالية والاجتماعيّة والبيئية. هكذا، عوض أن تأتي وسائل البناء العصرية لتتأقلم مع خصوصيات وجمالية البناء القروي الأصيل وسدّ بعض “ثغراته”، جاءت لتعوضه بشكل يسيء إلى الأسلوبين المعماريين معاً.

اقتصر استخدام الإسمنت في السّابق على البنايات التعليمية المشيدة بالألواح، وعلى الأعمدة الكهربائية الإسمنتية التي حلّت محلّ الخشبية. لكن مع التوسع النِّسبي لشبكات الطرق، في إطار برامج “فكّ العزلة” عن العالم القروي، سَهُلت (نوعا ما) عمليات نقل مواد البناء، ليبدأ مسلسل التشييد بالإسمنت، حتى لا تكاد تخطئ عيون زائر القرى المغربية اليوم “بيوت الله” الإسمنتية المُنتصبة وسط تكتلات سكنية بعضها مشيّد بالتراب أو الحجارة، والبعض الآخر، جزئياً أو كلياً، بالإسمنت. وساهمت حِراك (mobilité) الساكنة القروية، داخليا وخارجيا، في تشجيع استخدام الإسمنت، إذ ترى ندى أوسولوس، الباحثة في الجغرافيا، “أن  الموارد الجديدة الناتجة عن الهجرة كانت من بين العوامل التي ساهمت في تسريع هذه التحولات”.

كما فتح غياب سياسة عمومية مندمجة في مجال السّكن القروي، كما سبق ونبّه إلى ذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الباب على مصراعيه أم عشوائية البناء. ففي تقريره “السّكن في الوسط القروي: نحو سكن ُمستدام ومندمِج في ُمحيطِه”، الصّادر في غشت من سنة 2018، اعتبر  المجلس أنّ “الولوج إلى السّكن القروي لا يتصدر الأولويات كما هو الشأن بالنسبة للحقوق الأساسية الأخرى”. كما طرح التقرير عدداً من المشاكل ـ ذات الصّلة بالسّكن ـ التي تعاني منها ساكنة العالم القروي، كانعدام وسائل التخلصّ من مياه الصّرف الصّحي أو حتّى معضلة النّفايات، التي يواصل 89 بالمائة من سكان هذه المناطق التخلّص منها في الخلاء. 

هكذا، في الوقت الذي ينصّ فيه الفصل 31 من الدستور على “الحقّ في السّكن”، مع ربط مبدأ كرامة المواطن بالحق في سكن لائق، تعيش القرى المغربية خارج أي مخطط وطني للتعمير يراعي خصوصيات هذه المجالات. ويزيد من تأزيم غياب الرؤية هذا، إشكاليات أخرى، مناخية، كالفيضانات وزحف الرمال وانجراف التربة، وإدارية، كالبيروقراطية والفساد الإداري.

لا تقتصر المظاهر السلبية لـ”تمدن القرى” هذا على المغرب، إذ تشمل العديد من دول العالم التي تفتقر إلى سياسات تعميرية شاملة تأخذ بعين الاعتبار المقومات الثقافية والحضارية لهويتها، والتي أنتجت ـ  على مستوى القرى أو هوامش المدن على السواء ـ ما أسماه محمد جسوس “تمدّناً بلا تحضّر”.
معلومة : يُعتبر التراب من أقدم مواد البناء في تاريخ البشرية. في القرى المغربية تُشَيّد البنايات عبر دكّ التربة ـ مع السّهر على تجانس الحبيبات المُشكِّلة لها ـ بمدقة بين لوحين خشبيين عريضين يشكلان القوالب. تتم بعدها إزالة القوالب الخشبية تحت إشراف “المْعْلّم” (الحرفي الرئيسي). لتسقيف البنايات، تستعمل مواداً مختلفة، حسب المناطق، كجذوع النخيل وأشجار اللوز، بالإضافة إلى القصب، فيما يوضع القشّ (“التبن”) أو الجير على الجدران، التي يتم عادة تزيينها بأنماط هندسية أمازيغية وغيرها يمكن العثور عليها في الزّرابي أو المجوهرات أو الوشم النسائي، وتُشكّل جزءاً من تاريخ هذه المناطق. بالإضافة إلى  مرونته وقابليته لـ”التّطويع”، يوفر الطين “تكييفاً طبيعياً”، إذ أن البيوت الطينية تكون نسبياً دافئة خلال فصل الشتاء ومُعتدلة صيفاً. تعتَبِر منظمة اليونيسكو المعمار الطّيني “واحدة من أقوى وأشكال التعبيرات الأصلية لقدرة الإنسان على تشكيل بيئته من خلال الاستفادة المثلى من الموارد المحلية”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram