الرئيسية

رحمة.. حكاية نادلة تنزع قوت يومها من حقل ألغام

ربيع مصطفى، هوامش. “يرتدي طول الوقت لباسا أنيقا، يشي بأنه موظف كبير، يختار الطاولة الأولى في الزاوية اليسرى، خفيف الدم، غزا الشيب شعر، فمنحه وقارا، سرعان ما هدمه بـ”البسالة”.. حتما ليست صدمة أولى لكنها لا تغادر مخيلتي”، تصف رحمة، واحدة من “حوادث الشغل” التي تعترضها كنادلة في المقهى الحديث بأحد الأحياء الشعبية لمدينة سلا. رحمة […]

ربيع مصطفى، هوامش.

“يرتدي طول الوقت لباسا أنيقا، يشي بأنه موظف كبير، يختار الطاولة الأولى في الزاوية اليسرى، خفيف الدم، غزا الشيب شعر، فمنحه وقارا، سرعان ما هدمه بـ”البسالة”.. حتما ليست صدمة أولى لكنها لا تغادر مخيلتي”، تصف رحمة، واحدة من “حوادث الشغل” التي تعترضها كنادلة في المقهى الحديث بأحد الأحياء الشعبية لمدينة سلا.
رحمة (اسم مستعار)، متوسطة القامة، دون الثلاثين من العمر، مكتنزة الجسم، بشعر أسود مرتب بعناية، ذات بشرة بيضاء، بعينين بنيتين، وحاجبين تدخلت يد بشرية لتجعلهما دقيقين، وأنف أقنى، وشفتين دقيقتين، وذقن هلالي الشكل. هذه التوليفة منحتها جمالا، جر عليها نقمة في حياتها.

“سرباية”.. نظرات وكلمات

“الاستيقاظ صباحا ليس مشكلة بحد ذاتها، فـ”الولف” (الألفة) طبيعة الإنسان، لكن “البسالة” التي تتعرض لها “السرباية” في مقهى هي أقسى من كل شيء”، توضح رحمة في حديثها، الذي شرعت وتيرة سرعته في التثاقل، ليقينها أنها دخلت حقل ألغام، الكلمات فيه وجب أن تكون مضبوطة، لأن الخطأ يعود بنتائج كارثية.
وترفض رحمة تسمية ما تتعرض له بـ”التحرش”، وتفضل تسميته “البسالة”، رغم أن المشرع المغربي جرم التحرش الجنسي وجعله عنفا، وعرفه بأنه “الإمعان في مضايقة الغير بأفعال، أو أقوال، أو إشارات جنسية، أو لأغراض جنسية، والمرتكبة في الفضاءات العامة، أو بواسطة رسائل مكتوبة، أو هاتفية، أو إلكترونية، أو تسجيلات، أو صور ذات طبيعة جنسية، أو لأغراض جنسية”.
وتمضي بعد أن رفعت رأسها قليلا، وجعلت عيناها تتجهان إلى مدخل المقهى: “مشهد ذاك الرجل المسن ليس وحده الذي يضايق في العمل، فهناك الشباب الذين يحولون الأمر إلى لعبة يتنافسون فيها، من صاحب العبارات الأكثر وقعا لدى “السرباية”. نظرات بعضهم مخيفة، فهي تفضحهم، بينما يرسل آخرون إشارات وهمهمات، فيما لا يتردد آخرون في التصريح علنا بما يعتبرونه مشاعر”.
“لحسن الحظ، ليس كل رواد المقهى ينتمون لهذه الفصيلة، بل منهم من اعتبره في مقام أخي، ومنهم كذلك من يتعامل برقة وأدب واحترام”، استدركت بعد أن أخذت نفسا عميقا، “الحياة ليست سهلة، وظروف العمل تزداد صعوبة على الجميع، خاصة بالنسبة لسيدة مطلقة”.
وصدر قانون “حماية المرأة من العنف” في الجريدة الرسمية في شهر آذار/ مارس 2018، ودخل حيز التنفيذ في شتنبر من نفس السنة، وتتراوح العقوبات فيه بين السجن من 3 أشهر إلى 5 سنوات، وغرامة بين ألفي درهم إلى 50000 درهم (200 دولار إلى 5000 دولار)

الاستيقاظ في جوف الليل وتحمل “البسالة”

“يتوجب علي أن أكون أمام المقهى في تمام السادسة والنصف صباحا، لذلك أغادر منزل الأسرة قبلها بخمسة وأربعين دقيقة”، تحكي رحمة ساهمة العين صوب أرضية المقهى السيراميكية، بينما كانت أنامل يدها اليمنى تمسح صعودا ونزولا ذراعها الأيسر، تحاول أن تعوض صقيع فجر نونبر، بشمس الظهيرة الدافئة.
“لا ليس هناك إرغام على لباس معين في هذا المقهى، على الأقل “الباطرون” لا يلزمنا بارتداء هذا النوع دون غيره من الألبسة، لكن طبيعة عملنا القائمة على ديمومة الحركة، وعلى الوقوف وسرعة التجاوب مع الزبناء يحتم سروال “جينز” ناهيك عن (الطابلية)”، تشرح رحمة.

 

متحررة من الضغط قليلا، تلخص رحمة قواعد عمل النادلة، مستعينة بحركة يدها قائلة: “أول شيء يجب تعلمه في هذه الحرفة، هي إرضاء الزبون، وعدم إغضابه، لأنه جاء إلى هذا المكان ليحظى ببعض الراحة”. ثم تستأنف وكأنها استجمعت أنفاسها،”لا يهم هنا إن كانت هذه الراحة على حسابك أنت”.
“النادلة في مقهى، تبدأ عملها قبل شروق الشمس، أو تنهيه مع منتصف الليل ليس سهلا بطبيعته، ويزداد الأمر سوء مع البسالة، التي يعتبرها بعض الزبناء جزء من حقوقهم عليك، كما تعتبرها “السرباية” جزء من شروط العمل”، تجمل رحمة أسوأ ما يعترضها وزميلاتها في العمل بشكل شبه دائم.
“البسالة والاستيقاظ في جوف الليل، أو العودة إلى البيت في حدود منتصف الليل، لم تعد هي المشاكل المعتادة، لقد زادت كورونا الوضع سوءا، لقد توقفنا عن العمل بشكل مباشر لحوالي ثلاثة أشهر متواصلة، وبعدها لم يعد العمل كما كان، فلقد قررت السلطات خفض عدد المقاعد إلى النصف وساعات العمل كذلك”، تضيف ونظرة استسلام تغادر محياها.

بين العمل وضغط المجتمع..

 

 

تقول رحمة، بينما يداها تفتحان منديلها الذي يرافقها خلال نوبة عملها، بينما عيناها تنغرسان فيه وكأنهما اكتشفتا شيئا غريبا داخله، “المرأة والأمومة لا ينفصلان أبدا، لست أدري هل من حسن حظي أم من سوئه، لم أرزق بأطفال في زواجي الأول”.
وتزيد، “بعد أن تصبح المرأة مطلقة، تتغير نظرة أقرب الناس إليها، في بيتنا المكون من ثلاث بنات وولدين، وتكون هذه المطلقة هي أصغر عضو في الأسرة فالضغط عندها يكون أكبر بكثير من القدرة على التحمل، ويصبح العمل بحثا عن “مصروف” مسألة وقت فقط”.

“ليس الأمر متعلقا بحسن تعامل الأسرة من عدمه، بل مسؤولية تجاه نفسك ومن حولك، قبل الزواج تكون البنت تابعة لأبيها ونفقات الأسرة، أما بعدها فتصبح كيانا آخر”، تغيرت ملامح لبنى، وغطى الحزن نظرتها، بينما قطبت جبينها، فهي الآن تحكي قصة حياتها.
وزفرت بكلمات كأنها حمل أثقلها، بينما أفلتت قسمات وجهها من موجة غضب طارئة علته، “رغم أن هذا العمل صعب نفسيا، لكنه في آخر المطاف يوفر حوالي 1500 درهم شهريا، تشعرك بالرضى لأنك أصبحت منتجة ومسؤولة عن تلبية حاجياتك ورغباتك”.
وتحكي وابتسامة رضى تفتح أسارير وجهها: “الحمد لله أن أبي يملك بيتا، صحيح أنه في حي شعبي، غير أني لم أضطر لكراء غرفة مع الجيران، كما حال الكثيرات، صحيح أنه صغير، وفيه يقيم أخي وزوجته وطفلاه، لكنه بيت يأويني في آخر الليل، حتى تشرق شمس حياتي من جديد”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram