الرئيسية

مهن المقابر، منصة هوامش تفتح جرح ”تجار الموت”

حين تدفن الطفولة في تجارة بين القبور بجسم نحيف ووجه شاحب، تجلس خولة القرفصاء بجانب طاولة خشبية مهترئة، تطالع بعينيها زوارا ممن لهم أهلا دفنوا أو سيدفنون في مقبرة “الغفران”، ومن حين لآخر تنهض لتعيد ترتيب بعض قنينات ماء الزهر التي تعرضها على المارة، وهي على أهبة الاستعداد لمسارعة خطاها كلما لمحت زائرا قادما في […]

حين تدفن الطفولة في تجارة بين القبور

بجسم نحيف ووجه شاحب، تجلس خولة القرفصاء بجانب طاولة خشبية مهترئة، تطالع بعينيها زوارا ممن لهم أهلا دفنوا أو سيدفنون في مقبرة “الغفران”، ومن حين لآخر تنهض لتعيد ترتيب بعض قنينات ماء الزهر التي تعرضها على المارة، وهي على أهبة الاستعداد لمسارعة خطاها كلما لمحت زائرا قادما في اتجاه باب المقبرة.

“عمّي خود من عندي ماء الزهر.. عفاك” هي أكثر جملة ترددها خولة ذات الاثني عشر سنة، والتي ألقى بها صراع الام والأب بين أحضان القبور، بعدما تركت المدرسة في السنة الثانيةابتدائي، “المدرسة لن تؤمن لنا لقمة العيش” هكذا أجابت وبنبرة حادة عن سؤالنا حول عدم تواجدها كما قريناتها في المدرسة وكأنها تعاتبنا على جهلنا قوة أنينها وحجم أحلامها، قبل أن تتدخل العونية وهي امرأة كانت هي الأخرى تعرض بعض التمر و”الشريحة” ومستلزمات الزيارة، عرفنا منها أن والدة خولة قد استأمنتها عليها.

تقول العونية لمنصة “هوامش”، أن هذه المقبرة فتحت أحضانها لهذه الطفلة وعمرها لا يتجاوز 7 أشهر هي ووالدتها، بعد أن طردهما الأب وتنكرت لهما العائلة.

كان ذلك في صيف 2008، اشتغلت الأم في بيع قنينات ماء الزهر، لكن شللا سفليا مفاجئا ألم بها حرمها من نعمة المشي منذ ثلاث سنوات، فلم يكن من خيار أمام خولة إلا الخروج من طفولتها لتأخذ مكان والدتها في العمل.

السعدية  وهي امرأة في عقدها الرابع حاولت أن تشرح لنا بلغة المحاسبة أن هامش الربح لن يتجاوز 20 درهما إن هي باعت 20 قنينة من ماء الزهر بثمن  ثلاث دراهم.

“20 درهما من أجل “كاميلة” أبنائي، كافية لتجعل كل المواجع تهون” تقول السعدية.

العاطي الله.. قصص مآسي  

 العاطي الله… وكون لقيت البديل والله ما ندور هنا” هكذا أجابتنا سهام، واضعة يديها على خديها، وطفلة في حضنها، وبضع قنينات ماء أمامها، بعد أن أخبرناها أن معظم الناس يصفونهم بـ “تجار الموت”.

سهام  وهي امرأة في عقدها الخامس، تنحدر من إحدى دواوير جماعة زاوية القواسم التابعة لإقليم الجديدة، أثناء الحديث معها لم تفارق الابتسامة محياها إلا مرتين حين استسلمت عيناها لبعض الدموع وهي تسترجع ذكرياتها الحزينة، قبل أن تتغلب عليها من جديد بابتسامتها، لتستمر في البوح  وتحكي كيف أنها وجدت هي وأبنائها الستة  من الخير في الأموات ما لم تجده في الأحياء، بعدما اضطرت للهروب نحو الدار البيضاء، من بطش زوج كان يعنفها باستمرار لأنها طالبت بـ”عرض إحدى بناته ذات العشر سنوات للفحص الطبي بعدما أخبرتها أن عمها حاول ممارسة الجنس عليها”.

تحكي لـ”هوامش “بحرقة كبيرة عن الظلم الذي تعرضت له: “اكتشفت أن ابنتي بدون ملابس داخلية، وأنا التي حممتها وألبستها ملابسها قبل بضع ساعات فقط” وتضيف ” أخبرتني بعد أن سألتها أن ملابسها الداخلية في غرفة عمها”.

عزم سهام الإبلاغ بالعم لدى الشرطة جعلها في مرمى نيران الزوج وعائلته، “ما تقوليش ها الهضرة …هاد الهضرة ما كتقالش” هي جملة بلكنة دكالية أصيلة اتفقت عليها كل أفواه العائلة، كما اتفقت على محاصرة سهام وتحويل حياتها إلى جحيم.

عادت سهام فجأة لحديث البداية، وكأنها تريد أن تنتهي من استرجاع ذكرياتها المؤلمة، لتؤكد أنها ليست متسولة ولا تتطفل على أحد حينما يكون في لحظة سكون وهدوء قرب قبر الشخص الميت المزار، هي تحاول تأمين قوت أبنائها بعرق جبينها، تقدم الماء للزوار، لمن سيسقي قبرا، وتعرض غرسا  لمن أراد عليه زهرا، وتقوم بصيانته لمن يحب أن يراه جميلا.

حارس للمقبرة وأشياء أخرى…

في لحظة وقفنا بجانب حارس المقبرة، وهو يسأل إحدى الزائرات إن كانت ترغب في “غرس” لتزيين القبر أو تلاوة القرآن، قبل أن يسألنا إن كنا نبحث عن قبر تهنا عن مكانه. ارتبك الحارس  قليلا بعد أن أخبرناه أننا نقوم ربورتاج صحفي، وبعدما سألناه عن طبيعة عمله داخل المقبرة، رفض الإدلاء حتى باسمه الشخصي الحقيقي في هذا المقال.

كان يرتدي قبعة باهتة زرقتها بسبب عمله اليومي تحت أشعة الشمس الحارقة، وهي تغطي رأسه الذي اجتاحه الشيب، وبوجه ضامر رسمت عليه ستون سنة من عمره تجاعيد كثيرة، تردد قليلا وهو يوزع نظراته يمينا وشملا وتنهد بعمق وهو يستعد لاسترجاع معاناته مع توفير لقمة عيش لخمس فتيات، وكيف أنه مازال يكافح لتوفير تحاليل طبية وأدوية مكلفة لزوجته المريضة بداء السرطان.

“صحيح أنني اشتغل حارسا هنا وأتقاضى راتبا من إدارة المقبرة، لكن متطلبات الحياة والأجر الهزيل الذي لا يتعدى ألف درهم في الشهر، يفرض علي البحث عن موارد إضافية”، يقول الحارس. هو لا يريد شيئا، وكل ما يتمناه هو أن يجد جمعية تتكفل بعلاج زوجته،” أما بناتي، هاد الموتى قادين بهم” يضيف  في إشارة إلى ما يجنيه من المقبرة، قبل أن ينصرف كابحا آلامه، باحثا عن زائر يبلسم جراحه بعد أن مدنا باسمه الكامل واسم زوجته ورقم هاتفه، وكله أمل أن نجد له جمعية ترفع عنه ما أثقلته الهموم بحملها.

مرشد “سياحي” في مملكة الأموات 

يكاد لا يتوقف، يجول المقبرة طولا وعرضا، يبحث عن زائر ظل الطريق إلى قبر أحد أقربائه ليرشده، والإجابة عن سؤال تاريخ الوفاة تكفيه لينطلق نحو الهدف وكأنه قام بتفعيل نظام GPS، فهو يعرف خريطة المقبرة جيدا. هكذا هو حال مصطفى وهو شاب في العقد الثالث من عمره، يعاني إعاقة على مستوى يده اليمنى وأخرى في رجله اليسرى، ساقته الظروف منذ  أربع سنوات من دوار الشياظمة بإحدى القرى المهمشة التابعة لإقليم سطات الى مقبرة الغفران.

يحدثنا  مصطفى كيف قرر الهجرة من الدوار بعد وفاة والديه، ورفض إخوته المتزوجين استقباله.

“انا بالنسبة لهم حمل ثقيل بسبب إعاقتي لأنني لا أستطيع القيام بالأشغال الشاقة في الدوار” يقول مصطفى.

ويضيف شأنه شأن كل من التقتهم “هوامش” أنا لا أزعج ولا أضايق أحدا، عملي إرشاد الناس وقراءة آيات لمن رغب في ذلك، خصوصا وأنني حافظ لكتاب الله بفضل دخولي المبكر للمسجد في الدوار، ولولا الفقر وعدم القدرة على القيام بأي عمل عضلي ما كنت وجدتني هنا”.

الرحمة والكرم تغلب الاستياء 

كثيرون هم الزوار الذين لا يخفون تذمرهم من هؤلاء الأشخاص في جنبات المقبرة أو داخلها والذين يرتبط قوت عيشهم بالأموات.

“أزور قبري والدتي مرتين في الشهر منذ ما يزيد عن 3 سنوات”، تقول وهيبة لـ”هوامش”، مضيفة: ” وأكثر ما يضايقني هو كثرة الأشخاص الذين يكسرون أقوى لحظات تأمل وحديث روحي بيني وبين أمي. ومهما توفر لك من المال، لن يكفيك مع كثرة ما يعرض هنا من خدمات، لكنني في نهاية المطاف أستطيع أن أنهر سائلا”.

بعض الزوار، يضطرون إلى قبول نفس الخدمة مرتين حين يعرضها شخصين مختلفين، ومحمد الذي جاء مع زوجته لزيارة قبر والدته واحد منهم، يقول “كثيرا ما أزور قبر والدي، لكنني لا أستطيع أن أتجاهل شخصا طلب مني قراءة بعض من آيات القرآن فوق قبري والدي، الله يحسن العوان”.

أفرجت السماء أخيرا عن مطر غزير، وتسارع الجميع للاختباء تحت الشجر ولسان حالهم يقول “اللهم اجعل قوت يومنا مثل قطرات هذا المطر التي تأتي بغتة بدون ميعاد ولا إعلام”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram