يمر أحمد مسرعا على دراجته، يبدو أن الوقت لا يسعفه لإلقاء تحية سريعة حتى، فقد بدأت جولته الصباحية وهو في سباق مع شاحنة جمع الأزبال. مرور الشاحنة يعني أن أحمد لن يحصل على ما خرج من أجله.
على دراجة هوائية يعلو الصدأ هيكلها، لا كوابح ولا أضواء، يبدأ أحمد جولته باكراً كل صباح، للبحث عن قوته اليومي، قبل أن تمر شاحنة جمع الأزبال لتفريغ حاويات القمامة في جوفها.
تستمر الجولة أحيانا حتى حدود منتصف النهار، وتشمل كل أحياء المدينة، أما المساء، فيخصصه أحمد للقاء زبنائه وعرض ما جمعه من متلاشيات بجوطية مدينة سوق السبت أولاد النمة بإقليم الفقيه بن صالح.
هذا مشهد يتكرر بشكل يومي، وكله أمل أن يجني بعض المال ليسد به مصاريفه اليومية، ويساعد أخواته على مواجهة تكاليف الحياة.
” استيقظ باكراً وأركب دراجتي فأقصد أحياء المدينة في جولة روتينية للبحث في الحاويات عما يمكن أن أعرضه للبيع قبل أن تمر الشاحنة التي تجمع الأزبال، أما الأدوات التي استعين بها في عملية جمع [السلعة] من حاويات القمامة، فهي كيس بلاستكي وقضيب حديدي يدعى ‘المنكاش'”.
يمتهن أحمد ذو 49 سنة هذه “المهنة”، منذ أزيد من عقد ونصف من الزمن، بعد أن أقعده المرض عن العمل في مجال الفلاحة التي تتطلب مجهوداً عضلياً، فجسمه النحيف لم يعد يقو على العمل في حقول الشمندر والزيتون والفلفل الأحمر، لذلك وجد نفسه يواجه شبح البطالة التي صفدت أحلام شباب مدينة أصبحت تقسو على أهاليها.
عرف اقتصاد المدينة تدهوراً كبيراً خلال العقدين الأخيرين، فبعد سنوات الازدهار خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حملت خلالها المنطقة اسم “الكويت” دلالة على غناها واستقطابها ليد عاملة مهمة من المناطق المجاورة. ها هي اليوم تعيش انحساراً كبيراً على جميع المستويات بعد تفكيك معمل السكر الذي كان يشكل القلب النابض للمدينة.
وما فاقم الأزمة أكثر هو تراجع القطاع الفلاحي بالمنطقة نتيجة توالي فترات الجفاف وتراجع عائدات المهاجرين بالخارج من أبناء البلدة نتيجة الأزمة الاقتصادية التي ضربت أوروبا، وتفكيك وحدتي حلج القطن، وتصنيع السكر اللتان كانتا بمثابة المحرك الرئيسي لاقتصاد المدينة وضواحيها.
كل يوم، بعد جولة مضنية على متن دراجته الهوائية، وبوجه شاحب، وملامح يطبعها الكدح، يتوجه أحمد إلى الجوطية (سوق المتلاشيات)، حاملاً كيساً مليئا بالخردة، ليعرض ما تم جمعه من حاويات القمامة، في مشهد سوريالي يصعب معه الربط بين هذه المعروضات التي قد تتشكل من فردة حذاء، قلم، تبان، علب دواء فارغة، وصفات طبية، آلات إلكترونية مكسرة، كتب، أحمر شفاه، ألبسة قديمة، قوارير، أقراص مدمجة… فكل ما يصادفه بحاويات القمامة بالنسبة له قابل للبيع.
أحمد، لا يهتم بترتيب هذه المعروضات وهو يلج مكانه الخاص والمفضل وسط الجوطية، بل يلقي بها بشكل عشوائي أمامه، وكأنما يدرك في قرارة نفسه أنها بدون قيمة، مادام أن مصدرها هو القمامة، لذلك لا تحتاج منه جهدا إضافيا لترتيبها والاعتناء بها.
تتراوح أثمنة السلع التي يعرضها أحمد ما بين درهم واحد إلى أربعة دراهم، وقد تقوده الصدفة أحيانا إلى العثور على أشياء يجني من ورائها مبلغا زائدا عن المألوف، أما مدخوله اليومي فلا يتجاوز بالكاد 30 درهما، ونادرا ما يصل إلى 40 درهما، يسر لنا أحمد.
عبر أحمد عن تخوفه مما قد يحمله له المستقبل بالقول ” أصبح الوضع سيئا والحصول على القوت اليومي يكلف الكثير”، ورغم أن وضعه الصحي لم يعد يشجعه على الاستمرار في هذه الحرفة نظراً لمخاطر الأمراض التي قد تصيبه من جراء احتكاكه اليومي مع حاويات القمامة، ورغم قلة ما يجنيه من وراء هذه (المهنة)، فهو يواصل كفاحه اليومي من أجل ” كسرة الخبز”.