الرئيسية

هنا آيت داوود، حيث الحلم قطرة غيث وكسرة خبز

بعيداً عن جنوب مدينة الصويرة بـ 88 كيلومترا، غرب الأطلس الكبير، هناك خلف الجبال وبين قممها، خلف سلسلة من أشجار العرعار ووسط خليط من أشجار الخروب والزيتون وقليل من أشجار اللوز، هناك في جانب آخر من المغرب المنسي، تقع بلدة اسمها آيت داوود، إحدى أهم وأكبر مناطق حاحا الأمازيغية، هي نموذج آخر لإحدى هوامش المغرب […]

بعيداً عن جنوب مدينة الصويرة بـ 88 كيلومترا، غرب الأطلس الكبير، هناك خلف الجبال وبين قممها، خلف سلسلة من أشجار العرعار ووسط خليط من أشجار الخروب والزيتون وقليل من أشجار اللوز، هناك في جانب آخر من المغرب المنسي، تقع بلدة اسمها آيت داوود، إحدى أهم وأكبر مناطق حاحا الأمازيغية، هي نموذج آخر لإحدى هوامش المغرب المنسي، حيث الفقر، والجفاف والتهميش.

الطريق إلى آيت داوود.. حكايات تهميش على الهامش

إحدى المطفيات الجافة في حي أيت داوود

على بعد 40 كيلومتر من آيت داوود، تقع جماعة سميمو التي تمر وسطها الطريق الوطنية رقم1، والتي تربط الصويرة بأكادير، وتعتبر الشارع الرئيسي بهذه البلدة، فيه تتوقف بعض الحافلات والسيارات المتوجهة إلى أكادير، وفيه يلتقي سكان الدواوير المجاورة لاقتناء ضروريات الاستمرار في الحياة. هناك في ركن بجانب الطريق حيث ستنتظر دهرا حتى يكتمل عدد ركاب سيارة الأجرة، صادفت “الحسين “، رجل مسن متكئ على عكاز مهترئ. ما أن وقفت بجانبه حتى بادرني بسؤال باللغة الأمازيغية: “إزْدْ أَيْدَّاوْدْ أَتْرِيتْ، إِدِيسَاتْقْلْتْ أَيْعْمْرْ الطّاكْسي؟” (” هل أنت متوجه إلى آيت داوود؟ هل تنتظر إلى أن يكتمل عدد الركاب؟ “)، أخبرته أنها فعلاً وجهتي وأنني سأتنقل عن طريق سيارة خاصة. سكت برهة وأطلق لسانه للكلام: ” ذلك لحسن حظك، كنت ستنتظر هنا لساعات طويلة“. أخبرني أنه كان في طريقه لزيارة أبنائه في مدينة أكادير، ولعيادة طبيب من أجل فحص وإجراء بعض التحاليل. لا تتوفر بلدة آيت داوود على عيادة خاصة ولا على مختبر، باستثناء مستوصف عمومي يفتقر إلى أبسط التجهيزات. تحدث الشيخ عن أزمة تنقل المواطنين، التي استفحلت منذ ظهور وباء كورونا. وبحرقة حدثني أيضاً عن الجفاف وغياب الأمطار، وعن الفقر والفقراء، حكى لي عن الماضي والخوف من الحاضر و المستقبل.

أكملت طريقي وانطلقت في طريق ثانوية، أشجار “الأركان” في جنباتها ما تزال صامدة أمام جفافٍ أصاب أرضها لسنوات، وكلما تقدمتَ في الطريق إلا وترتفع بك الخطى نحو السماء لشق مسلك وسط الجبال أحيانا، وفي حافتها أحيانا أخرى. هي جبال تكسو سفوحها الكثير من أشجار العرعار في منظر جميل، تتوقف لحظات للاستمتاع برائحتها المنعشة التي تنساب إلى أنفاسك وكأنها تحاول أن تعلمك التنفس بجرأة لطرد مخلفات عوادم السيارات والمنشئات الصناعية.

هي ساعة زمن لقطع الطريق من سميمو حتى تبلغ القمة، وعلى بعد حوالي 10 كيلومترات من دخول بلدية آيت داوود، وبعد أن تكون قد ودعت شجر “الأرغان”، ترافقك أشجار متنوعة بين الزيتون واللوز والخروب، والتي تنتظر الغيث بعد ما ظلت تقاوم العطش لسنوات طوال.

آيت داوود ..لا غيث من الأرض ولا من السماء

دخلت آيت داوود يوم سبت، والدخول إليها في غير أيام الثلاثاء والجمعة – اللذان يعتبران بمثابة يومي “سوق أسبوعي” يحج إليه سكان الدواوير المجاورة إليها – أشبه ما يكون بالدخول إلى بلدة مهجورة. في المدخل ثانوية تأهيلية ثم مركز للدرك الملكي ودار للطلاب ومركز سوسيورياضي، ثانوية إعدادية يقابلها مركز صحي ثم مدرسة ابتدائية ومقر البلدية والباشوية، تتمركز هذه المؤسسات على طول نصف كيلومتر تقريبا، يمكن قطعه دون أن تلتقي أحدا في الطريق، لن تتراءى الحركة إلا بعد الوصول إلى مركز البريد، حيث يوجد أشخاص يرابطون هنا وهناك وكأنهم يقومون بدور مراقبة الداخل إلى البلدة والخارج منها، قبل أن يمتد البصر نحو شارع طويل يضم محلات تجارية أغلبها للمواد الغذائية.

جنبات السوق الاسبوعي

آيت داود منطقة جبلية بتضاريس قاسية، ذات مناخ جاف، عانت لسنوات كثيرة من الجفاف ومن ندرة المياه حتى الصالح منها للشرب، كان أغلب سكانها يعتمدون على الآبار للحصول على المياه. ولا حديث الآن سوى عن انطلاق عملية تزويد المنطقة بالماء الصالح للشرب الأسبوع الماضي، بعد أن تم إنجاز شبكة لتوزيع الماء تم ربطها بأحد سدود الإقليم، وذلك بعد عدة سنوات من المعاناة الحقيقية.

 يقول أحمد لـ “هوامش” بعد أن أطلق زفيرا عميقا: «عانينا كثيرا ودائما من قلة المياه، كنا إلى عهد قريب نضطر للخروج في الثانية صباحا، أتوجه عبر الحمار إلى جماعة كوزمت التي تبعد 15 كيلومترا عن مركز آيت داوود بحثا عن مياه نشربها“.

البحث عن الماء الصالح للشرب كالخروج في رحلة صيد يمكن أن ترجع منها خالي الوفاض، خصوصا إذا سبقك إلى البئر شخصين أو ثلاثة أشخاص، لأنه سيكون عليك انتظار التدفق البطيء للماء لساعات طويلة، يوضح أحمد. فمنذ سنة 2007 التجأت الجماعة إلى التزود بالمياه من الآبار الواقعة بمنطقة تهلوانت. إلى حدود سنة 2014. لتعيش بعد ذلك على وقع الانقطاع المتكرر للمياه. وفي هذه المرحلة نظمت الساكنة احتجاجات عدة، اتهمت من خلالها السلطات بالعجز عن وضع حد نهائي لمشكل العطش في المنطقة، وصلت حدود التهديد بالقيام بمسيرة مشيا على الأقدام إلى عمالة مدينة الصويرة. مباشرة بعد ذلك سيعتمد المجلس البلدي على صهريج متنقل يزود به الساكنة بالمياه.

يقول عبد الله: ” صحيح أن المجلس البلدي الحالي لا يتقاضى أجرا مقابل ذلك مقارنة بسابقيه، ولكن مدة انتظار وصول دورك طويلة جدا بسبب توفر البلدية على صهريج واحد لا يكف مقارنة مع عدد السكان”.

الحمّام هنا يعتبر من الكماليات، بعدما توقف الحمام الوحيد في البلدة عن الخدمة بسبب قلة المياه، فالذهاب إليه يتطلب، ممن يتوفر على الإمكانيات، السفر مسافة 40 كيلومترا نحو سميمو أو 84 كيلومترا نحو مدينة الصويرة.

فرحة عودة الماء ..كسراب في أرض الفقر

السوق الاسبوعي

الفرح والسرور الذي عم كل أرجاء البلدة، بعد إطلاق عملية تزويدها بالماء الصالح للشرب الأسبوع الماضي، لم يمسح كل الحزن والأسى عن الأهالي بسبب توالي سنوات الجفاف التي عرفتها المنطقة. مصادر عيش الناس هنا ليست مستقرة وليست متكافئة، فهناك من يعتمد على تربية محتشمة للماشية، ومن يعتمد على بيع محصول أشجار الخروب، أو الزيتون، أو الشعير. لكن كل هذه الموارد الضعيفة دخلت مرحلة الاحتضار.

العْربي، رجل في الخمسينيات من عمره اعتاد أن يزاوج في مصادر عيشه بين ما يتحصل عليه من محصول الخروب وبعض حبوب الشعير أو خروف أو عنزة يبيعها في السوق الأسبوعي، يحكي بحسرة كبيرة وحزن عميق لـ”هوامش” كيف ألحق  الجفاف معاناة حقيقية  به وبأسرته .

فرص الشغل منعدمة تماما، وحتى أعمال المياومة التي كانت من قبل، على قلتها وضعف أجرها، لم تعد تتوفر، بسبب الجفاف. لأنها مرتبطة بالحصاد والدرس وجني ثمار الخروب والزيتون. وأغلبية شباب المنطقة شقوا طريقهم وهاجروا نحو المدن الكبرى بحثا عن فرصة عمل، يعيلون بها أنفسهم ويجنبون أسرهم مذلة الحاجة والسؤال، بالرغم من أن العديد منهم أصبح عاطلا عن العمل بسبب جائحة كورونا.

 

 

“نعيش هنا بالدعاء فقط”

مشكل الأزبال في المنطقة

كان “حسن “، أحد شباب المنطقة وهو حاصل على إجازة جامعية، يشتغل نادلا في إحدى المقاهي بالدار البيضاء قبل وباء كورونا ، هو اليوم بلا عمل. يقول ل”هوامش” أن: ” كل المؤسسات التي تتوفر عليها آيت داوود باعتبارها جماعة حضرية لا تعكس الواقع الحقيقي للبلدة، فعوامل عدة تجعلها ترزح تحت وطأة المعاناة، وهي الجفاف والفقر، وانعدام فرص الشغل. بالإضافة إلى الموقع الجغرافي لآيت داوود الذي جعلها شبه منعزلة، خصوصا وأنها كانت إلى وقت قريب بمثابة نقطة النهاية والرجوع، ففيها ينتهي الطريق المعبد، الدخول إليها والخروج منها لا يتم إلا عبر طريق واحد هو الذي يربطها بمدينة الصويرة، حيث تم فيما بعد ربطها بالطريق الوطنية رقم 8 التي تربط إمينتانوت وأكادير”.

صِحة معلولة ونقل مشلول

آيت داوود بالرغم من كونها جماعة حضرية إلا أنها تتوفر على مركز صحي واحد يفتقر لأبسط التجهيزات. ويعاني من قلة الموارد البشرية وضعف الخدمات المقدمة، بالإضافة إلى الغياب المتكرر للطبيب الرئيسي. ناهيك، عن اضطرار الحالات المستعجلة للتنقل لأزيد من 80 كيلومترا للوصول إلى مستعجلات المستشفى الإقليمي لمدينة الصويرة.

النقل بهذه البلدة لا يقل تأزما عن الصحة، فالسفر المباشر إليها لا يتم إلا عبر الحافلة الوحيدة التي تنطلق حوالي الساعة الثامنة صباحا من محطة أولاد زيان بالدار البيضاء والتي تصل إلى آيت داوود حوالي السادسة مساء، وإن أفلت الراغب في السفر الحافلة سيكون مضطرا إلى الذهاب في رحلة متعبة متقطعة على ثلاث مراحل.

السفر من وإلى هذا الجزء المنسي المحجوب بالجبال نقطة سوداء لمن لا يتوفر على وسيلة نقل خاصة. يقول أحد السكان: ” مجرد السفر إلى مدينة الصويرة متعب حقا، وإذا فوتت حافلة الصباح، ستكون مضطرا إلى أن تستقل سيارتَي أجرة، مع ما لذلك من تداعيات كارتفاع التكلفة وضياع الوقت”.

يطبق الصمت ويسود السكون أزقة البلدة باستثناء نباح كلاب هنا وهناك بمجرد أن يسدل الليل ستاره، وباكرا يدخل الناس بيوتهم ويقفلون أبوابهم، يلملمون جراحهم ويرفعون أيديهم للسماء تضرعا لله أن يسقيهم مطرا.

هنا آيت داوود، حيث لا يمكنك النظر في وجوه الناس دون أن تلمس وراء ابتسامتهم حزنا وبؤسا عميقا، ولا بد لك في لحظة تأمل أن ترسم لوحات عطش وفقر وقلة ذات اليد. هنا لا يعرف الناس شيئا عن المغرب الأخضر أو المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. هنا الحلم، قطرة غيث وكسرة خبز.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram