يُقال عن زاكورة وورزازات والراشيدية وتنغير ونواحي هذه المدن أنها “بلاد الله يعمرها دار”. عبارة تحسس الكثير من المنتمين لهذه الربوع بالفخر، وتشير إلى الأخلاق الحميدة لأغلب الساكنة وطيبوبتهم خاصة مع الزائرين من الداخل والخارج. صورة منطقة مُسالم أهلها، حتى أنهم قد يتنازلون عن حقهم أحيانا، وبلاد يمكنك أن تترك فيها باب بيتك مفتوحا دون خوف من لصوص، فأبواب البيوت في القرى مشرعة وأغلب البنايات يمكن تسلق حيطانها والتسلل إليها دون مجهود كبير، ومع ذلك فقد ظلت هذه القرى لعقود طويلة آمنة، ولماما ما تسجل السرقات التي يشار إلى مرتكبيها بالأصابع منذ الوهلة الأولى لارتكابها.
لعقود ظلت بلاد “الله يعمرها دار” مكانا آمنا لتربية الأطفال، ليس فقط بسبب الفضاءَات الواسعة والنظيفة، لكن أيضاً لأن الجميع في القرى يشاركك تربية ابنتك أوابنك، فيكفي أن يضبطه جار وهو يقوم بعمل غير لائق مثلا حتى ينبهه، وقد يوبخه مثلا دون أن تحتج على ذلك، فالعمل الجماعي يمتد ليشمل تربية الأبناء الذين يكبرون على توقير من يكبرهم سنا وسماع كلمتهم حتى وهي خاطئة!
صحيح أنه لا وجود لمجتمع يخلو من الجرائم والحوادث، لكن بلاد “الله يعمرها دار” بقيت في مخيالنا أرضا لا تعرف جرائم مروعة، حيث الجرائم للمدن الكبيرة وليس لها، وغير ذلك من الصفات الأخرى التي ظلت محفظة للهوامش المنسية. لكنه في الآونة الأخيرة، بدأت تظهر جرائم لم نكن نسمع بها إلا في الأفلام، أو في أفواه العمال الذين يعودون خلال فترات أعياد الأضحى وهم يرتدون ملابس المدن، فنصغي إلى القصص التي يحكونها عن جرائم المدن الكبيرة وقشعريرة تسري في أجسامنا. إلى أن ظهرت قضية نعيمة الروحي، الطفلة التي قُتلت ورُميت جثتها في الجبل نواحي أكدز.
ابتدأت قضية هذه الطفلة في غشت 2020 بإعلانات في صفحات محلية تفيد اختفاء طفلة بدوار تفركالت نواحي أكذز بإقليم زاكورة، إعلانات لم تنل حقها من المشاركة على وسائط التواصل الاجتماعي، نظرا لتزامنها مع حوادث غرق في وادي درعة، فقد كان أغلب الظن أن هذه الطفلة لقيت نفس المصير. لكن، بعد ما يزيد عن شهر عن اختفائها، وقعت الصدمة بعدما عثر سكان من منطقتها على بقايا جثتها وملابسها بأحد الجبال قرب الدوار. فتحت الواقعة الباب أمام تكهنات كثيرة، من ضمنها أن الجناة ربما من محترفي البحث عن الكنوز. أعلنت السلطات مباشرة تحقيق قضائي، وما تزال الأسرة ومعها الساكنة تنتظر نتائجه التي لم تظهر بعد. استغل بعض الفرقاء السياسيين ملف الطفلة البريئة ومعاناة والديها، لتصفية حسابات سياسية بأسماء وهمية على صفحات الفايسبوك والواتساب بترويج لوائح الجناة المفترضين، لكن السلطات الأمنية لم تتوصل إلى أي شيء، وما تزال الأسرة المكلومة تنتظر أن تتعرف الشرطة على الجناة و تقدمهم للمحاكمة طبقا للقوانين.
في نفس الإقليم، بجماعة أيت بوداود، كان الأب مبارك خردي ينتظر أن يُرزق بطفل، نقل زوجته نحو مستشفى الدراق بزاكورة. وفي غمرة الانتظار أخبروه أن الجنين ولد ميتا لكن الزوجة بخير. منذ يوم الجمعة 6 نونبر وهو يطالب إدارة المستشفى أن تسمح له بدفن الرضيع بعد أن يلقي عليه نظرة أولى وأخيرة، ليتفاجأ مساء الإثنين 9 نونبر بخبر أن مجهولا بتر يد الرضيع الذي لم يكتب له أن يطلق صرخته الأولى. وفتحت السلطات تحقيقا آخر في الموضوع، لتحديد هوية هذا المجهول الذي لم يوقر الأحياء ولا الأموات. وخوفا من أن تسجل القضية ضد مجهول، وتلقى نفس مصير قضايا سابقة، فقد توجه الأب يوم الثلاثاء الذي صادف العاشر من نونبر، إلى محكمة الاستئناف بورزازات، مدعما ملفه بشكاية لدى الوكيل العام للملك، ومطالبا بتشريح جثة الجنين لتحديد سبب الوفاة، وفتح تحقيق لمعرفة من يقف وراء بتر يد ابنه الذي لم يكتب له أن يحضنه. وبهذا، تنضاف جريمة بتر يد جنين ولد ميتا إلى القضايا التي بدأت تظهر في يوميات بلاد “الله يعمرها دار”، وبدأت تكسر تلك الهالة التي ترسم عن الهوامش والقرى، مقولة أن الكل “مسڭي من مغرفة واحدة”.