محمد تغروت
كشف التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات لسنة 2023، والذي شمل تدقيق حسابات 27 حزباً سياسياً من أصل 33 حزبا، عن مجموعة من الملاحظات المتعلقة بالتدبير المالي والمحاسبي لهذه الهيئات، خاصة فيما يخص نفقات الدعم العمومي الممنوح لها وكيفية تبريرها. ويأتي هذا التدقيق في إطار الدور الرقابي للمجلس على استخدام الأموال العمومية.
ديون وغموض في مالية الأحزاب
أظهر التقرير أن إجمالي موارد الأحزاب السياسية التي قدمت حساباتها (27 حزباً) بلغ حوالي 105 ملايين درهم، شكّل الدعم العمومي 58% من هذا المبلغ بما يقارب 60.48 مليون درهم، مسجلاً انخفاضاً بنسبة 25.5% مقارنة بسنة 2022. كما شهدت الموارد الذاتية للأحزاب انخفاضاً بنسبة 38%، وفي المقابل، بلغت نفقات الأحزاب المصرح بها 91.37 مليون درهم، هيمنت عليها تكاليف التسيير بنسبة تجاوزت 92%.
ويمثل المبلغ المتبقي في ذمة الأحزاب السياسية النقطة الأكثر إثارة في التقرير، فقد سجل المجلس أن 15 حزباً سياسياً لم يقوموا بعد بإرجاع مبلغ 21.96 مليون درهم إلى الخزينة، وتتوزع هذه المبالغ بين ما لم يتم إثبات صرفها بوثائق قانونية، والتي بلغ قدرها 5.07 مليون درهم، ومبالغ لم يتم استعمالها بلغت 3.36 مليون درهم، ومبالغ استُعملت في غير الأغراض المخصصة لها، قدرت ب 2.88 مليون درهم، بالإضافة إلى مبالغ اعتُبرت غير مستحقة بلغت0.65 مليون درهم؛ يأتي هذا المبلغ ليضاف إلى 35.92 مليون درهم كان قد أرجعها 24 حزباً خلال الفترة ما بين 2022 و2025، مما يؤشر على وجود آلية للإرجاع لكنها لا تزال غير كافية.
ويتربع حزب الاستقلال على قمة لائحة الأحزاب المدينة للخزينة العامة، بفارق شاسع، حيث ينتظر منه إرجاع 11.46 مليون درهم، وهو ما يمثل أكثر من نصف (52%) إجمالي المبالغ التي لم يتم إرجاعها من طرف جميع الأحزاب، يليه حزب الحركة الشعبية في المرتبة الثانية، بدين يبلغ 5.4 مليون درهم، أي ما يعادل 24.5% من مجموع الديون المستحقة، ثم حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية، الذي بالرغم من عدم تقديمه لحساباته، فهو مدين للخزينة العامة بمبلغ 1.56 مليون درهم، كما يدين كل من الحزب الديمقراطي الوطني وحزب الإصلاح والتنمية بمبالغ تقدر بحوالي 942 ألف درهم و713 ألف درهم على التوالي.
ويأتي كل من حزب الاستقلال وحزب الحركة الشعبية على رأس قائمة الأحزاب التي صرفت أموالا دون تقديم وثائق مبررة، إذ لم يدعم حزب الاستقلال صرف أجور ومنح وتعويضات لمستخدميه، بمبلغ ضخم قدره 1.79 مليون درهم، بوثائق إثبات كافية، بينما سجل التقرير نقصاً في تبرير صرف أجور مستخدمين بمبلغ 1.08 مليون درهم بالنسبة للحركة الشعبية.
في ذات اللائحة نجد كلا من حزب العدالة والتنمية، الذي أظهر التقرير نقصاً في تبريره لتحصيل موارد ذاتية بقيمة 557 ألف درهم، بالإضافة إلى نفقات غير مدعمة بوثائق قانونية بلغت نحو 908 آلاف درهم، وحزب الوحدة والديمقراطية، الذي لم يقدم أي وثائق لإثبات تحصيل موارده البالغة 169 ألف درهم، مما يضع علامة استفهام كبيرة حول مصادر هذه الأموال، إضافة إلى حزب الديمقراطيين الجدد، إذ سجل التقرير قيامه بتحصيل مبالغ نقدية بلغت 649 ألف درهم، متجاوزاً بشكل صارخ السقف القانوني للمعاملات النقدية (10 آلاف درهم).
نقائص متكررة في التدبير والامتثال
لم تقتصر ملاحظات المجلس على المبالغ المالية فقط، بل رصد التقرير مجموعة من النقائص الجوهرية والمتكررة التي تهدد شفافية العمل الحزبي، ومنها غياب الامتثال، ويتعلق الأمر بستة أحزاب من أصل 33 لم تقدم حساباتها السنوية أصلاً للمجلس، ويتعلق الأمر بكل من حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية، وحزب الإصلاح والتنمية، وحزب النهضة والفضيلة، وحزب العهد الديمقراطي، وحزب القوات المواطنة، بالإضافة إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وسجل التقرير أيضا ضعف تبرير الأحزاب لمواردها، حيث لم تدعم 4 أحزاب جزءاً من مواردها الذاتية بوثائق إثبات،
ويتعلق الأمر بكل من حزب العدالة والتنمية، الذي فشل، وفقا للتقرير، في تقديم وثائق إثبات لتحصيل مبلغ قدره 556 ألفا و785 درهم، يمثل واجبات انخراط ومساهمات من أعضائه ومنتخبيه، تم تسجيله في الحسابات دون تقديم أي إيصالات أو مستندات قانونية، مما يجعله الرقم الأعلى في قائمة “الأموال غير المبررة”.
ثم حزب الوحدة والديمقراطية، بمبلغ إجمالي قدره 169 ألفا و600 درهم من الموارد غير المبررة، يليه حزب الشورى والاستقلال، الذي رصد التقرير قيامه بإيداع مبلغ 75 ألف درهم نقداً في صندوقه دون تقديم أي وثيقة تثبت مصدره. ورغم أن الحزب برر ذلك بأن المبلغ مخصص “لتمويل النفقات اليومية”، فإن غياب التوثيق القانوني يجعله مخالفة صريحة، ويطرح أسئلة حول سبب عدم اتباع المساطر المالية الواجبة.
يضاف إلى ما سلف، حزب النهج الديمقراطي العمالي، الذي فشل، وفقا للتقرير، في تبرير عائدات بقيمة 51 ألفا و779 درهم بوثائق قانونية، مكتفياً بتسجيلها كعملية “دائنة” دون تقديم ما يثبت مصدرها.
وكشف التقرير أن 5 أحزاب قامت بتحصيل مبالغ نقدية تتجاوز السقف القانوني، المحدد في 10 آلاف درهم للمعاملة الواحدة، ويتعلق الأمر بكل من حزب الديمقراطيين الجدد، الذي قام بتحصيل 649 ألف درهم نقدًا، وحزب الإنصاف، الذي قام بتحصيل 77 ألفا و900 درهم نقدًا، ثم حزب الشورى والاستقلال بمبلغ 75 ألف درهم نقدًا، وحزب جبهة القوى الديمقراطية، الذي قام بتحصيل 39 ألف درهم نقدًا، وختاما حزب الوسط الاجتماعي، الذي قام بتحصيل 25 ألف درهم نقدًا.
توصيات صارمة من المجلس الأعلى للحسابات: هل تلتزم الأحزاب بالتصحيح؟
لم يكتفِ التقرير بالتشخيص، بل قدم خارطة طريق واضحة من خلال مجموعة من التوصيات الملزمة، أبرزها، تلك الموجهة للأحزاب السياسية، وتتمثل بالأساس في إعادة المبالغ غير المستحقة، أو غير المبررة، إلى خزينة الدولة، والالتزام بالقانون عن طريق تقديم الحسابات السنوية في آجالها القانونية، مدعمة بكافة الوثائق الثبوتية، وكذا مسك محاسبة دقيقة باحترام المبادئ والقواعد المحاسبية، خاصة مبدأ “الوضوح” و”الشمولية”، وتقوية القدرات عبر تعزيز التدبير الإداري والمالي، من خلال اعتماد مساطر واضحة وتكوين الموارد البشرية.
بينما أوصى المجلس وزارة الداخلية، بمواصلة حث الأحزاب على إرجاع الأموال المستحقة للخزينة، وتنظيم دورات تكوينية لأطر الأحزاب، وإعداد دليل للمساطر ونظام معلوماتي مشترك للمحاسبة، وكذا العمل على ملاءمة مرسوم الدعم مع مقتضيات القانون التنظيمي لتعزيز نجاعة تدبير الدعم العمومي.
تقرير المجلس الأعلى للحسابات لعام 2023، بكشفه عن استمرار وجود تحديات كبيرة تواجه الأحزاب السياسية في المغرب، فيما يتعلق بالشفافية والمساءلة في تدبير أموال الدعم العمومي. يطرح تساؤلات جدية حول مدى التزام هذه الأحزاب بالقوانين المنظمة لماليتها، وضرورة اتخاذ إجراءات حازمة لضمان حكامة مالية رشيدة تعزز ثقة المواطنين في المؤسسات.